الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الأم ***
أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ قَالَ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إدْرِيسَ الشَّافِعِيُّ: وَلَمْ أَسْمَعْ هَذَا الْكِتَابَ مِنْهُ، وَإِنَّمَا أَقْرَأهُ عَلَى مَعْرِفَةِ أَنَّهُ كَانَ مِنْ كَلاَمِهِ قَالَ: وَبِلاَدُ الْمُسْلِمِينَ شَيْئَانِ عَامِرٌ وَمَوَاتٌ فَالْعَامِرُ لِأَهْلِهِ وَكُلُّ مَا صَلُحَ بِهِ الْعَامِرُ إنْ كَانَ مُرْفَقًا لِأَهْلِهِ مِنْ طَرِيقٍ وَفِنَاءٍ وَمَسِيلِ مَاءٍ، أَوْ غَيْرِهِ فَهُوَ كَالْعَامِرِ فِي أَنْ لاَ يَمْلِكَهُ عَلَى أَهْلِ الْعَامِرِ أَحَدٌ إلَّا بِإِذْنِهِمْ وَالْمَوَاتُ شَيْئَانِ مَوَاتٌ قَدْ كَانَ عَامِرًا لِأَهْلٍ مَعْرُوفِينَ فِي الْإِسْلاَمِ ثُمَّ ذَهَبَتْ عِمَارَتُهُ فَصَارَ مَوَاتًا لاَ عِمَارَةَ فِيهِ فَذَلِكَ لِأَهْلِهِ كَالْعَامِرِ لاَ يَمْلِكُهُ أَحَدٌ أَبَدًا إلَّا عَنْ أَهْلِهِ، وَكَذَلِكَ مَرَافِقُهُ وَطَرِيقُهُ وَأَفْنَيْته وَمَسَايِلُ مَائِهِ وَمَشَارِبُهُ. وَالْمَوَاتُ الثَّانِي مَا لَمْ يَمْلِكْهُ أَحَدٌ فِي الْإِسْلاَمِ بِعُرْفٍ، وَلاَ عِمَارَةٍ، مُلِكَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، أَوْ لَمْ يُمْلَكْ فَذَلِكَ الْمَوَاتُ الَّذِي قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَحْيَا مَوَاتًا فَهُوَ لَهُ». وَالْمَوَاتُ الَّذِي لِلسُّلْطَانِ أَنْ يَقْطَعَهُ مَنْ يُعَمِّرُهُ خَاصَّةً وَأَنْ يَحْمِيَ مِنْهُ مَا رَأَى أَنْ يَحْمِيَهُ عَامًّا لِمَنَافِع الْمُسْلِمِينَ وَسَوَاءٌ كُلُّ مَوَاتٍ لاَ مَالِكَ لَهُ إنْ كَانَ إلَى جَنْبِ قَرْيَةٍ جَامِعَةٍ عَامِرَةٍ، وَفِي وَادٍ عَامِرٍ بِأَهْلِهِ وَبَادِيَةٍ عَامِرَةٍ بِأَهْلِهَا وَقُرْبِ نَهْرٍ عَامِرٍ، أَوْ صَحْرَاءَ أَوْ أَيْنَ كَانَ لاَ فَرْقَ بَيْنَ ذَلِكَ، قَالَ وَسَوَاءٌ مَنْ أَقْطَعَهُ الْخَلِيفَةُ أَوْ الْوَالِي، أَوْ حَمَاهُ هُوَ بِلاَ قَطْعٍ مِنْ أَحَدٍ مَوَاتًا لاَ مَالِكَ لَهُ وَكُلُّ هَؤُلاَءِ أَحْيَاءٌ لاَ فَرْقَ بَيْنَهُمْ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى: وَإِنَّمَا يَكُونُ الْإِحْيَاءُ مَا عَرَفَهُ النَّاسُ إحْيَاءً لِمِثْلِ الْمَحْيَا إنْ كَانَ مَسْكَنًا فَأَنْ يُبْنَى بِمِثْلِ مَا يُبْنَى بِهِ مِثْلُهُ مِنْ بُنْيَانٍ حَجَرٍ، أَوْ لَبِنٍ، أَوْ مَدَرٍ يَكُونُ مِثْلَهُ بِنَاءً وَهَكَذَا مَا أَحْيَا الْآدَمِيُّ مِنْ مَنْزِلٍ لَهُ أَوْ لِدَوَابَّ مِنْ حِظَارٍ، أَوْ غَيْرِهِ فَأَحْيَاهُ بِبِنَاءِ حَجَرٍ، أَوْ مَدَرٍ، أَوْ بِمَاءٍ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْعِمَارَةَ بِمِثْلِ هَذَا، وَلَوْ جَمَعَ تُرَابًا لِحِظَارٍ أَوْ خَنْدَقٍ لَمْ يَكُنْ هَذَا إحْيَاءً، وَكَذَلِكَ لَوْ بَنَى خِيَامًا مِنْ شَعْرٍ، أَوْ جَرِيدٍ أَوْ خَشَبٍ لَمْ يَكُنْ هَذَا إحْيَاءً تُمْلَكُ لَهُ الْأَرْضُ بِالْإِحْيَاءِ، وَمَا كَانَ هَذَا قَائِمًا لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ أَنْ يُزِيلَهُ، فَإِذَا أَزَالَهُ صَاحِبُهُ لَمْ يَمْلِكْهُ وَكَانَ لِغَيْرِهِ أَنْ يَنْزِلَهُ وَيَعْمُرَهُ، وَهَذَا كَالْفُسْطَاطِ يَضْرِبُهُ الْمُسَافِرُ، أَوْ الْمُنْتَجِعُ لِغَيْثٍ وَكَالْخِبَاءِ وَكَالْمُنَاخِ وَغَيْرِهِ وَيَكُونُ الرَّجُلُ أَحَقَّ بِهِ حَتَّى يُفَارِقَهُ، فَإِذَا فَارَقَهُ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حَقٌّ وَهَكَذَا الْحِظَارُ بِالشَّوْكِ وَالْخِصَافِ وَغَيْرِهِ. وَعِمَارَةِ الْغِرَاسِ وَالزَّرْعِ أَنْ يَغْرِسَ الرَّجُلُ الْأَرْضَ فَالْغِرَاسُ كَالْبِنَاءِ إذَا أَثْبَتَهُ فِي الْأَرْضِ كَانَ كَالْبِنَاءِ يَبْنِيهِ انْقَطَعَ الْغِرَاسُ كَانَ كَانْهِدَامِ الْبِنَاءِ وَكَانَ مَالِكًا لِلْأَرْضِ مُلْكًا لاَ يَحُولُ عَنْهُ إلَّا مِنْهُ وَبِسَبَبِهِ، وَأَقَلُّ عِمَارَةِ الزَّرْعِ الَّذِي لاَ يُظْهِرُ مَاءً لِرَجُلٍ عَلَيْهِ الَّتِي تُمْلَكُ بِهَا الْأَرْضُ كَمَا يُمْلَكُ مَا يَنْبُتُ مِنْ الْغِرَاسِ أَنْ يَحْظُرَ عَلَى الْأَرْضِ بِمَا يَحْظُرُ بِمِثْلِهِ مِنْ حَجَرٍ، أَوْ مَدَرٍ، أَوْ سَعَفٍ، أَوْ تُرَابٍ مَجْمُوعٍ وَيَحْرُثُهَا وَيَزْرَعُهَا، فَإِذَا اجْتَمَعَ هَذَا، فَقَدْ أَحْيَاهَا إحْيَاءً تَكُونُ بِهِ لَهُ وَأَقَلُّ مَا يَكْفِيهِ مِنْ هَذَا أَنْ يَجْمَعَ تُرَابًا يُحِيطُ بِهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُرْتَفِعًا أَكْثَرَ مِنْ أَنْ تَبِينَ بِهِ الْأَرْضُ مِمَّا حَوْلَهَا وَيَجْمَعُ مَعَ هَذَا حَرْثَهَا وَزَرْعَهَا وَهَكَذَا إنْ ظَهَرَ عَلَيْهِ مَاءُ سَيْلٍ، أَوْ غِيلٍ مُشْتَرَكٍ أَوْ مَاءُ مَطَرٍ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ مُشْتَرَكٌ فَإِنْ كَانَ لَهُ مَاءٌ خَاصٌّ وَذَلِكَ مَاءُ عَيْنٍ، أَوْ نَهْرٍ يَحْفِرُهَا يَسْقِي بِهَا أَرْضًا فَهَذَا إحْيَاءٌ لَهَا وَهَكَذَا إنْ سَاقَ إلَيْهَا مِنْ نَهْرٍ، أَوْ وَادٍ، أَوْ غِيلٍ مُشْتَرَكٍ فِي مَاءِ عَيْنٍ لَهُ، أَوْ خَلِيجٍ خَاصَّةٍ فَسَقَاهَا بِهِ، فَقَدْ أَحْيَاهَا الْإِحْيَاءَ الَّذِي يَمْلِكُهَا بِهِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: مَا لاَ يَمْلِكُهُ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ صِنْفَانِ: أَحَدُهُمَا يَجُوزُ أَنْ يَمْلِكَهُ مَنْ يُحْيِيهِ وَذَلِكَ مِثْلُ الْأَرْضِ تُتَّخَذُ لِلزَّرْعِ وَالْغِرَاسِ وَالْآبَارِ وَالْعُيُونِ وَالْمِيَاهِ وَمَرَافِقِ هَذَا الَّذِي لاَ يَكْمُلُ صَلاَحُهُ إلَّا بِهِ، وَهَذَا إنَّمَا تُجْلَبُ مَنْفَعَتُهُ بِشَيْءٍ مِنْ غَيْرِهِ لاَ كَبِيرَ مَنْفَعَةٍ فِيهِ هُوَ نَفْسِهِ، وَهَذَا إذَا أَحْيَاهُ رَجُلٌ بِأَمْرِ وَالٍ، أَوْ غَيْرِ أَمْرِهِ مَلَكَهُ، وَلَمْ يَمْلِكْ أَبَدًا إلَّا أَنْ يُخْرِجَهُ مَنْ أَحْيَاهُ مِنْ يَدِهِ، وَالصِّنْفُ الثَّانِي مَا تُطْلَبُ الْمَنْفَعَةُ مِنْهُ نَفْسِهِ لِيَخْلُصَ إلَيْهَا لاَ شَيْءَ يُجْعَلُ فِيهِ مِنْ غَيْرِهِ وَذَلِكَ الْمَعَادِنُ كُلُّهَا الظَّاهِرَةُ وَالْبَاطِنَةُ مِنْ الذَّهَبِ وَالتِّبْرِ وَالْكُحْلِ وَالْكِبْرِيتِ وَالْمِلْحِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَأَصْلُ الْمَعَادِنِ صِنْفَانِ مَا كَانَ ظَاهِرًا كَالْمِلْحِ الَّذِي يَكُونُ فِي الْجِبَالِ يَنْتَابُهُ النَّاسُ فَهَذَا لاَ يَصْلُحُ لِأَحَدٍ أَنْ يُقْطِعَهُ أَحَدًا بِحَالٍ وَالنَّاسُ فِيهِ شُرَّعٌ، وَهَكَذَا النَّهْرُ وَالْمَاءُ الظَّاهِرُ فَالْمُسْلِمُونَ فِي هَذَا كُلِّهِمْ شُرَكَاءُ، وَهَذَا كَالنَّبَاتِ فِيمَا لاَ يَمْلِكُهُ أَحَدٌ وَكَالْمَاءِ فِيمَا لاَ يَمْلِكُهُ أَحَدٌ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: مَا الدَّلِيلُ عَلَى مَا وَصَفْت؟ قِيلَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ مَأْرِبَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ الْأَبْيَضَ بْنَ حَمَّالٍ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُقْطِعَهُ مِلْحَ مَأْرِبَ فَأَرَادَ أَنْ يُقْطِعَهُ، أَوْ قَالَ: أُقْطِعُهُ إيَّاهُ، فَقِيلَ لَهُ: إنَّهُ كَالْمَاءِ الْعِدِّ، قَالَ: فَلاَ إذَنْ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَنَمْنَعُهُ إقْطَاعَ مِثْلِ هَذَا فَإِنَّمَا هَذَا حِمًى، وَقَدْ قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لاَ حِمَى إلَّا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ» فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَكَيْفَ يَكُونُ حِمًى؟ قِيلَ: هُوَ لاَ يُحْدِثُ فِيهِ شَيْئًا تَكُونُ الْمَنْفَعَةُ فِيهِ مِنْ عَمَلِهِ، وَلاَ يَطْلُبُ فِيهِ شَيْئًا لاَ يُدْرِكُهُ إلَّا بِالْمُؤْنَةِ عَلَيْهِ إنَّمَا يَسْتَدِرْك فِيهِ شَيْئًا ظَاهِرًا ظُهُورَ الْمَاءِ وَالْكَلاَِ، فَإِذَا تَحَجَّرَ مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ هَذَا، فَقَدْ حَمَى لِخَاصَّةِ نَفْسِهِ فَلَيْسَ ذَلِكَ لَهُ، وَلَكِنَّهُ شَرِيكٌ فِيهِ كَشَرِكَتِهِ فِي الْمَاءِ وَالْكَلاَِ الَّذِي لَيْسَ فِي مِلْكِ أَحَدٍ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَإِقْطَاعُ الْأَرْضِ لِلْبِنَاءِ وَالْغِرَاسِ لَيْسَ حِمًى، قِيلَ: إنَّهُ إنَّمَا يَقْطَعُ مِنْ الْأَرْضِ مَا لاَ يَضُرُّ بِالنَّاسِ وَمَا يَسْتَغْنِي بِهِ وَيَنْتَفِعُ بِهِ هُوَ وَغَيْرُهُ، قَالَ: وَلاَ يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا بِمَا يُحْدِثُهُ هُوَ فِيهِ مِنْ مَالٍ فَتَكُونُ مَنْفَعَتُهُ بِمَا اسْتَحْدَثَ مِنْ مَالِهِ مِنْ بِنَاءٍ أَحْدَثَهُ، أَوْ غَرْسٍ، أَوْ زَرْعٍ لَمْ يَكُنْ لِآدَمِيٍّ وَمَاءٍ احْتَفَرَهُ، وَلَمْ يَكُنْ وَصَلَ إلَيْهِ آدَمِيٌّ إلَّا بِاحْتِفَارِهِ، وَقَدْ أَقْطَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَلَّمَ الدُّورَ وَالْأَرَضِينَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْحِمَى الَّذِي نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ أَنْ يَحْمِيَ الرَّجُلُ الْأَرْضَ لَمْ تَكُنْ مِلْكًا لَهُ، وَلاَ لِغَيْرِهِ بِلاَ مَالٍ يُنْفِقُهُ فِيهَا، وَلاَ مَنْفَعَةَ يَسْتَحْدِثُهَا بِهَا فِيهَا لَمْ تَكُنْ فِيهَا فَهَذَا مَعْنَى قَطِيعٍ مَأْذُونٍ فِيهِ لاَ حِمًى مَنْهِيٌّ عَنْهُ. قَالَ الرَّبِيعُ يُرِيدُ الَّذِي هُوَ مَأْذُونٌ فِيهِ الَّذِي اسْتَحْدَثَ فِيهِ بِالنَّفَقَةِ مِنْ مَالِهِ، وَأَمَّا مَا كَانَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ بِلاَ نَفَقَةٍ عَلَى مَنْ حَمَاهُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْمِيَهُ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَمِثْلُ هَذَا كُلُّ عَيْنٍ ظَاهِرَةٌ كَنَفْطٍ، أَوْ قَارٍ، أَوْ كِبْرِيتٍ، أَوْ مُومْيَاءَ أَوْ حِجَارَةٍ ظَاهِرَةٍ كَمُومْيَاءَ فِي غَيْرِ مِلْكٍ لِأَحَدٍ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَحَجَّرَهَا دُونَ غَيْرِهِ، وَلاَ لِسُلْطَانِهَا أَنْ يَمْنَعَهَا لِنَفْسِهِ، وَلاَ لِخَاصٍّ مِنْ النَّاسِ؛ لِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ ظَاهِرٌ كَالْمَاءِ وَالْكَلاَِ، وَهَكَذَا عِضَاهُ الْأَرْضِ لَيْسَ لِلسُّلْطَانِ أَنْ يَقْطَعَهَا لِمَنْ يَتَحَجَّرُهَا دُونَ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهَا ظَاهِرَةٌ، وَلَوْ أَقْطَعَهُ أَرْضًا يَعْمُرُهَا فِيهَا عِضَاهٌ فَعَمَرَهَا كَانَ ذَلِكَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يُحْدِثُ فِيهَا مَا وَصَفْت بِمَالِهِ مِمَّا هُوَ أَنْفَعُ مِمَّا كَانَ فِيهَا، وَلَوْ تَحَجَّرَ رَجُلٌ لِنَفْسِهِ مِنْ هَذَا شَيْئًا، أَوْ مَنَعَهُ لَهُ سُلْطَانٌ كَانَ ظَالِمًا. وَلَوْ أَخَذَ فِي هَذَا الْحَالِ مِنْ هَذَا شَيْئًا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُ إلَّا أَنَّهُ يُشْرِكُ فِيهِ مَنْ مَنَعَهُ مِنْهُ، وَلاَ أَنْ يَغْرَمَ لِمَنْ مَنَعَهُ شَيْئًا بِمَنْعِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ شَيْئًا كَانَ لِأَحَدٍ فَيَضْمَنُ لَهُ مَا أَخَذَ مِنْهُ، وَإِنْ مَنَعَ الرَّجُلَ مِمَّا لِلرَّجُلِ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ جِهَةِ الْإِبَاحَةِ، لاَ يُلْزِمُهُ غُرْمًا إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَمْنَعْهُ أَنْ يَحْتَطِبَ حَطَبًا، أَوْ يَنْزِلَ أَرْضًا لَمْ يَضْمَنْ لَهُ شَيْئًا إنَّمَا يَضْمَنُ مَا أَتْلَفَ لِرَجُلٍ أَوْ أَخَذَ مِمَّا كَانَ مِلْكُهُ لِرَجُلٍ، وَلَوْ أَحْدَثَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ هَذَا بِنَاءً قِيلَ لَهُ حَوِّلْ بِنَاءَك، وَلاَ قِيمَةَ لَهُ فِيمَا أَحْدَثَ بِتَحْوِيلِهِ؛ لِأَنَّهُ أَحْدَثَ فِيمَا لَيْسَ لَهُ بِغَيْرِ إذْنٍ فَإِنْ كَانَ أَحْدَثَ الْبِنَاءَ فِي عَيْنٍ لاَ يَمْنَعُ مَنْفَعَتَهَا لَمْ يُحَوَّلْ بِنَاؤُهُ، وَقِيلَ لَهُ لَك بِنَاؤُك، وَلاَ تَمْنَعْ أَحَدًا مِنْ هَذِهِ الْمَنْفَعَةِ، وَلاَ يَمْنَعْك وَأَنْتَ وَهُمْ فِيهَا شُرَّعٌ، وَلَوْ كَانَ بُقْعَةً مِنْ السَّاحِلِ، أَوْ الْأَرْضِ يَرَى أَنَّهَا تَصْلُحُ لِلْمِلْحِ لاَ يُوجَدُ فِيهَا إلَّا بِصَنْعَةٍ وَذَلِكَ أَنْ يَحْفِرَ تُرَابًا مِنْ أَعْلاَهَا فَيُنَحِّيَ ثُمَّ يُسَرِّبَ إلَيْهَا مَاءً فَيُدْخِلَهَا فَيَظْهَرَ مِلْحُهَا بِذَلِكَ، أَوْ يَحْفِرَ عَنْهَا التُّرَابَ فَيَظْهَرَ فِيهَا مِنْ وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ مَاءٌ ثُمَّ يَظْهَرَ فِيهَا كَانَ لِلسُّلْطَانِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ أَنْ يَقْطَعَهَا وَلِلرَّجُلِ أَنْ يَعْمُرَهَا ثُمَّ تَكُونَ لَهُ كَمَا تَكُونُ لَهُ الْأَرْضُ بِالزَّرْعِ وَالْبِنَاءِ، وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا أَكْثَرُ عِمَارَتِهَا وَأَنَّ هَذَا شَيْءٌ لاَ تَأْتِي مَنْفَعَتُهُ إلَّا بِصَنْعَةٍ، وَفِي وَقْتٍ لَيْسَ بِدَائِمٍ وَحَدِيثُ مَعْمَرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْطَعَ الْمِلْحَ، فَلَمَّا أُخْبِرَ أَنَّهُ دَائِمٌ كَالْمَاءِ مَنَعَهُ ذَلِكَ، وَهَذَا كَالْأَرْضِ يَقْطَعُهَا فَيَحْفِرَ فِيهَا الْبِئْرَ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ كَانَتْ مَحُولاً دُونَهَا إلَّا بِعَمَلِهِ، وَقَدْ يَعْمَلُ فِيهَا فَتَقِلُّ الْمَنْفَعَةُ وَتَكْثُرُ وَيُخْلِفُ، وَلاَ يُخْلِفُ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: ثُمَّ تُفَرَّقُ الْقَطَائِعُ فِرْقَيْنِ فَتَكُونُ بِمَا وَصَفْت مِمَّا إذَا أَقْطَعَهُ الرَّجُلُ فَأَحْيَاهُ مَلَّكَهُ مِنْ الْأَرْضِ بِالْبِنَاءِ وَالْغِرَاسِ وَالزَّرْعِ وَالْآبَارِ وَالْمِلْحِ وَمَا أَشْبَهَ هَذَا، فَإِذَا مَلَّكَهُ لَمْ يَمْلِكْ أَبَدًا إلَّا عَنْهُ وَهَكَذَا إذَا أَحْيَاهُ وَلَمْ يَقْطَعْهُ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ أَحْيَا مَوَاتًا فَيَقْطَعُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْيَاهُ وَعَطَاءُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْثَرُ مِنْ عَطَاءِ كُلِّ أَحَدٍ بَعْدَهُ مِنْ سُلْطَانٍ وَغَيْرِهِ، ثُمَّ يَكُونُ شَيْءٌ يَقْطَعُهُ الْمَرْءُ فَيَكُونُ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهِ وَمَنْعُهُ مِنْ غَيْرِهِ مَا أَقَامَ فِيهِ أَوْ وَكِيلٍ لَهُ، فَإِذَا فَارَقَهُ لَمْ يَكُنْ مِلْكًا لَهُ، وَلاَ يَكُونُ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ إقْطَاعُ إرْفَاقٍ لاَ تَمْلِيكٍ وَذَلِكَ مِثْلُ الْمَقَاعِدِ بِالْأَسْوَاقِ الَّتِي هِيَ طُرُقُ الْمُسْلِمِينَ كَافَّةً. فَمَنْ قَعَدَ فِي مَوْضِعٍ مِنْهَا لِبَيْعٍ كَانَ أَحَقَّ بِهِ بِقَدْرٍ مَا يُصْلِحُ لَهُ وَمَتَى قَامَ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ غَيْرِهِ، قَالَ: وَهَكَذَا الْقَوْمُ مِنْ الْعَرَبِ يَحِلُّونَ الْمَوْضِعَ مِنْ الْأَرْضِ فِي أَبْنِيَتِهِمْ مِنْ الشَّعْرِ وَغَيْرِهِ، ثُمَّ يَنْتَجِعُونَ عَنْهُ لاَ تَكُونُ هَذِهِ عِمَارَةً يَمْلِكُونَ بِهَا حَيْثُ نَزَلُوا، وَكَذَلِكَ لَوْ بَنَوْا خِيَامًا؛ لِأَنَّ الْخِيَامَ تَجِفُّ وَتَحُولُ تَحْوِيلَ أَبْنِيَةِ الشَّعْرِ وَالْفَسَاطِيطِ، وَهَذَا وَالْمَقَاعِدُ بِالسُّوقِ لَيْسَ بِإِحْيَاءِ مَوَاتٍ، وَفِي إقْطَاعِ الْمَعَادِنِ قَوْلاَنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِإِقْطَاعِ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ مَنْ أَقْطَع أَرْضًا فِيهَا مَعَادِنُ، أَوْ عَمِلَهَا لَيْسَتْ لِأَحَدٍ فَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْمَعَادِنُ ذَهَبًا، أَوْ فِضَّةً أَوْ نُحَاسًا، أَوْ حَدِيدًا، أَوْ شَيْئًا فِي مَعْنَى الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ مِمَّا لاَ يَخْلُصُ إلَّا بِمُؤْنَةٍ، وَلَمْ يَكُنْ مِلْكًا لِأَحَدٍ فَلِلسُّلْطَانِ أَنْ يَقْطَعَهَا مَنْ اسْتَقْطَعَهُ إيَّاهَا مِمَّنْ يَقُومُ بِهِ وَكَانَتْ هَذِهِ كَالْمَوَاتِ فِي أَنَّ لَهُ أَنْ يُقْطِعَهُ إيَّاهَا وَمُخَالِفَةٌ لِلْمَوَاتِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَإِنَّ الْمَوَاتَ إذَا أُحْيِيَتْ مَرَّةً ثَبَتَ إحْيَاؤُهَا وَهَذِهِ إذَا أُحْيِيَتْ مَرَّةً ثُمَّ تُرِكَتْ دَثَرَ إحْيَاؤُهَا وَكَانَتْ فِي كُلِّ يَوْمٍ مُبْتَدَأَ الْإِحْيَاءِ يَطْلُبُونَ فِيهَا مِمَّا يُطْلَبُ فِي الْمَعَادِنِ فَإِقْطَاعُهُ الْمَوَاتَ لِيُحْيِيَهُ يُثْبِتُهُ لَهُ مِلْكًا، وَلاَ يَنْبَغِي أَنْ يَقْطَعَهُ الْمَعَادِنَ إلَّا عَلَى أَنْ يَكُونَ لَهُ مَنْفَعَتُهَا مَا أَحْيَاهَا وَإِحْيَاؤُهَا إدَامَةَ الْعَمَلِ فِيهَا، فَإِذَا عَطَّلَهَا فَلَيْسَ لَهُ مَنْعُهَا مِنْ أَحَدٍ عَمِلَ فِيهَا، وَلاَ يَنْبَغِي أَنْ يُقْطِعَهُ مِنْهَا مَا لاَ يَعْمَلُ، وَلاَ وَقْتَ فِي قَدْرِ مَا يُقْطِعُهُ مِنْهَا إلَّا مَا احْتَمَلَ عَمَلَهُ قَلَّ مِنْهَا مَا عَمَلَ، أَوْ كَثُرَ وَالتَّعْطِيلُ لِلْمَعَادِنِ أَنْ يَقُولَ قَدْ عَجَزْت عَنْهَا.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَمَنْ خَالَفَ بَيْنَ إقْطَاعِ الْمَعَادِنِ وَالْأَرْضِينَ لِلزَّرْعِ انْبَغَى أَنْ يَكُونَ مِنْ حُجَّتِهِ أَنْ يَقُولَ إنَّ الْمَعَادِنَ إنَّمَا هِيَ شَيْءٌ يُطْلَبُ فِيهِ ذَهَبٌ، أَوْ فِضَّةٌ، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ غَائِبٌ عَنْ الطَّالِبِ مَخْلُوقٌ فِيهِ لَيْسَتْ لِلْآدَمِيِّينَ فِيهِ صَنْعَةٌ إنَّمَا يَلْتَمِسُونَهُ وَيُخَلِّصُونَهُ وَالْتِمَاسُهُ وَتَخْلِيصُهُ لَيْسَ صَنْعَةً فِيهِ فَلاَ يَكُونُ لِأَحَدٍ أَنْ يَحْتَجِزَهُ عَلَى أَحَدٍ إلَّا مَا كَانَ يُعْمَلُ فِيهِ، فَأَمَّا أَنْ يَمْنَعَ الْمَنْفَعَةَ فِيهِ غَيْرَهُ، وَلاَ يَعْمَلَ هُوَ فِيهِ فَلَيْسَ لَهُ وَلَقَدْ رَأَيْت لِلسُّلْطَانِ أَنْ لاَ يَقْطَعَ مَعْدِنًا إلَّا عَلَى مَا أَصِفُ مِنْ أَنْ يَقُولَ أَقْطَعُ فُلاَنًا مَعَادِنَ كَذَا عَلَى أَنْ يَعْمَلَ فِيهَا فَمَا رَزَقَ اللَّهُ أَدَّى مَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِيمَا يَخْرُجُ مِنْهُ، وَإِذَا عَطَّلَهَا كَانَ لِمَنْ يُحْيِيهَا الْعَمَلُ فِيهَا وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهَا لَهُ قَالَ: وَمِنْ حُجَّةِ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ مِلْكِهَا وَبَيْنَ مِلْكِ الْأَرْضِ أَنْ يَقُولَ لَيْسَ لَهُ بَيْعُهَا، وَلاَ بَيْعُ الْأَرْضِ لاَ مَعْدِنَ فِيهَا، قَالَ: وَمَنْ قَالَ: هَذَا قَالَ وَلَوْ مَلَّكَهُ إيَّاهَا السُّلْطَانُ، وَهُوَ يَعْمَلُهَا مِلْكًا بِكُلِّ حَالٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ إلَّا عَلَى مَا وَصَفْت وَكَانَ هَذَا جَوْرًا مِنْ السُّلْطَانِ يُرَدُّ، وَإِنْ عَمِلَهَا هُوَ بِغَيْرِ عَطَاءٍ مِنْ السُّلْطَانِ كَانَتْ لَهُ حَتَّى يُعَطِّلَهَا، وَمَنْ قَالَ هَذَا أَشْبَهُ أَنْ يَحْتَجَّ بِأَنَّ الرَّجُلَ يَحْفِرَ الْبِئْرَ بِالْبَادِيَةِ فَتَكُونَ لَهُ، فَإِذَا أَوْرَدَ مَاشِيَتَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْعُ فَضْلِ مَائِهَا وَجَعَلَ عَمَلَهُ فِيهَا غَيْرَ إحْيَاءٍ لَهُ جَعَلَهُ مِثْلَ الْمَنْزِلِ يَنْزِلُ بِالْبَادِيَةِ فَلاَ يَكُونُ لِأَحَدٍ أَنْ يُحَوِّلَهُ عَنْهُ، وَإِذَا خَرَجَ مِنْهُ لَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ مَنْ يَنْزِلُهُ وَجَعَلَهُ غَيْرَ مَمْلُوكٍ، وَسَوَاءٌ فِي هَذَا مَعْدِنُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَكُلُّ تِبْرٍ وَغَيْرِهِ مِمَّا يُطْلَبُ بِالْعَمَلِ، وَلاَ يَكُونُ ظَاهِرًا كَظُهُورِ الْمَاءِ وَالْمِلْحِ الظَّاهِرِ، وَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ هَذَا ظَاهِرًا مِنْ ذَهَبٍ، أَوْ غَيْرِهِ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَقْطَعَهُ، وَلاَ يَمْنَعَهُ وَلِلنَّاسِ أَنْ يَأْخُذُوا مِنْهُ مَا قَدَرُوا عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ الشَّذْرُ يُوجَدُ فِي الْأَرْضِ، وَلَوْ أَنَّ رَجُلاً أَقْطَعَ أَرْضًا فَأَحْيَاهَا بِعِمَارَةِ بِنَاءٍ، أَوْ زَرْعٍ أَوْ غَيْرِهِ فَظَهَرَ فِيهَا مَعْدِنٌ كَانَ يَمْلِكُهُ مَلَكَ الْأَرْضَ وَكَانَ لَهُ مَنْعُهُ كَمَا يَمْنَعُ أَرْضَهُ فِي الْقَوْلَيْنِ مَعًا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي أَنَّ الرَّجُلَ إذَا أُقْطِعَ الْمَعْدِنَ فَعَمِلَ فِيهِ، فَقَدْ مَلَكَهُ مِلْكَ الْأَرْضِ، وَكَذَلِكَ إذَا عَمِلَهُ بِغَيْرِ إقْطَاعٍ، وَمَا قُلْت فِي الْقَوْلَيْنِ مَعًا فِي الْمَعَادِنِ فَإِنَّمَا أَرَدْت بِهَا الْأَرْضَ الْقَفْرَ تَكُونُ أَرْضَ مَعَادِنَ فَيَعْمَلُهَا الرَّجُلُ مَعَادِنَ، وَفِي الْقَوْلِ الْأَوَّلِ يَكُونُ عَمَلُهُ فِيهَا لاَ يُمَلِّكُهُ إيَّاهَا إلَّا مِلْكَ الِاسْتِمْتَاعِ يَمْنَعُهُ مَا كَانَ يَعْمَلُ فِيهِ، فَإِذَا عَطَّلَهُ لَمْ يَمْنَعْهُ غَيْرَهُ، وَفِي الْقَوْلِ الثَّانِي إذَا عَمِلَ فِيهَا فَهُوَ كَإِحْيَاءِ الْأَرْضِ يَمْلِكُهَا أَبَدًا، وَلاَ تُمْلَكُ إلَّا عَنْهُ. قَالَ: وَكُلُّ مَعْدِنٍ عُمِلَ جَاهِلِيًّا ثُمَّ أَرَادَ رَجُلٌ اسْتِقْطَاعَهُ فَفِيهِ أَقَاوِيلُ: مِنْهَا أَنَّهُ كَالْبِئْرِ الْجَاهِلِيَّةِ وَالْمَاءِ الْمُعَدِّ فَلاَ يُمْنَعُ أَحَدٌ الْعَمَلَ فِيهِ، وَلاَ يَكُونُ أَحَدٌ أَوْلَى بِهِ مِنْ أَحَدٍ يَعْمَلُ فِيهِ، فَإِذَا اسْتَبَقُوا إلَيْهِ فَإِنْ وَسِعَهُمْ عَمِلُوا مَعًا، وَإِنْ ضَاقَ أُقْرِعَ بَيْنَهُمْ أَيُّهُمْ يَبْدَأُ ثُمَّ يَتْبَعُ الْآخَرُ فَالْآخَرُ حَتَّى يَتَوَاسَوْا فِيهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ لِلسُّلْطَانِ أَنْ يَقْطَعَهُ عَلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ يَعْمَلُ فِيهِ مَنْ أَقْطَعَهُ، وَلاَ يَمْلِكُهُ مِلْكَ الْأَرْضِ، فَإِذَا تَرَكَهُ عَمِلَ فِيهِ غَيْرُهُ. وَالثَّالِثُ: يَقْطَعُهُ فَيَمْلِكُهُ مِلْكَ الْأَرْضِ إذَا أَحْدَثَ فِيهِ عِمَارَةً وَكُلُّ مَا وَصَفْت مِنْ إحْيَاءِ الْمَوْتِ وَإِقْطَاعِ الْمَعَادِنِ وَغَيْرِهَا فَإِنَّمَا أَعْنِي فِي عَفْوِ بِلاَدِ الْعَرَبِ الَّذِي عَامِرُهُ عُشْرٌ وَعَفْوُهُ غَيْرُ مَمْلُوكٍ قَالَ: وَكُلُّ مَا ظَهَرَ عَلَيْهِ عَنْوَةً مِنْ بِلاَدِ الْعَجَمِ فَعَامِرُهُ كُلُّهُ لِمَنْ ظَهَرَ عَلَيْهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ لِأَهْلِ الْخُمْسِ سَهْمٌ وَأَرْبَعَةٌ لِمَنْ أَوْجَفَ عَلَيْهِ فَيُقَسَّمُ بَيْنَهُمْ قَسْمَ الْمِيرَاثِ وَمَا مَلَكُوا بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ وَمَا كَانَ فِي قَسْمِ أَحَدِهِمْ مِنْ مَعْدِنٍ فَهُوَ لَهُ كَمَا يَظْهَرُ الْمَعْدِنُ فِي دَارِ الرَّجُلِ فَيَكُونُ لَهُ وَيَظْهَرُ بِئْرُ الْمَاءِ فَيَكُونُ لَهُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَإِنْ كَانَ فِيهَا مَعْدِنٌ ظَاهِرٌ فَوَقَعَ فِي قَسَمِ رَجُلٍ بِقِيمَتِهِ فَذَلِكَ لَهُ كَمَا يَقَعُ فِي قَسْمِهِ الْعِمَارَةُ بِقِيمَةٍ فَتَكُونُ لَهُ وَكُلُّ مَا كَانَ فِي بِلاَدِ الْعَنْوَةِ مِمَّا عُمِّرَ مَرَّةً ثُمَّ تُرِكَ فَهُوَ كَالْعَامِرِ الْقَائِمِ الْعِمَارَةِ وَذَلِكَ مَا ظَهَرَتْ عَلَيْهِ الْأَنْهَارُ وَعُمِّرَ بِغَيْرِ ذَلِكَ عَلَى نُطَفِ السَّمَاءِ وَبِالرِّشَاءِ وَكُلِّ مَا كَانَ لَمْ يُعَمَّرْ قَطُّ مِنْ بِلاَدِهِمْ، وَكَانَ مَوَاتًا فَهُوَ كَالْمَوَاتِ مِنْ بِلاَدِ الْعَرَبِ لاَ يَخْتَلِفُ فِي أَنَّهُ لَيْسَ بِمِلْكٍ لِأَحَدٍ دُونَ أَحَدٍ وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُقْطِعَ مِنْهُ أَقْطَعَ مِمَّنْ أَوْجَفَ، أَوْ لَمْ يُوجِفْ هُمْ سَوَاءٌ فِيهِ لاَ تَخْتَلِفُ حَالاَتُهُمْ فِيمَا أَحْيَوْا وَأَرَادُوا مِنْ الْإِقْطَاعِ، قَالَ: وَمَا كَانَ مِنْ بِلاَدِ الْعَجَمِ صُلْحًا فَانْظُرْ مَالِكَهُ فَإِنْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ مَالِكِيهِ فَهُوَ لَهُمْ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ مَعْدِنًا، وَلاَ غَيْرَهُ إلَّا بِإِذْنِهِمْ وَعَلَيْهِمْ مَا صُولِحُوا عَلَيْهِ. قَالَ: وَإِنْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ مَالِكِينَ شَيْئًا مِنْهُ بِشَيْءٍ تُرِكَ لَهُمْ فَخُمْسُ مَا صُولِحَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ لِأَهْلِ الْخُمْسِ وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ لِجَمَاعَةِ أَهْلِ الْفَيْءِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ حَيْثُ كَانُوا فَيُقَسَّمُ لِأَهْلِ الْخُمْسِ رَقَبَةِ الْأَرْضِ وَالدُّورِ وَلِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسٍ فَمَنْ وَقَعَ فِي مِلْكِهِ شَيْءٌ كَانَ لَهُ. وَإِنْ صَالَحُوا الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَوَاتٍ مَعَ الْعَامِرِ فَالْمَوَاتُ مَمْلُوكٌ كَالْعَامِرِ وَمَا كَانَ فِي حَقِّ امْرِئٍ مِنْ مَعْدِنٍ فَهُوَ لَهُ وَمَا كَانَ فِي حَقِّ جَمَاعَةٍ مِنْ مَعْدِنٍ فَبَيْنَهُمْ كَمَا يَكُونُ بَيْنَهُمْ مَا سِوَاهُ، وَإِنْ صَالَحُوا الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ لَهُمْ الْأَرْضَ وَيَكُونُونَ أَحْرَارًا ثُمَّ عَامَلَهُمْ الْمُسْلِمُونَ بَعْدُ فَإِنَّ الْأَرْضَ كُلَّهَا صُلْحٌ وَخُمْسُهَا لِأَهْلِ الْخُمْسِ وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهَا لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا وَصَفْت، وَإِذَا وَقَعَ صُلْحُهُمْ عَلَى الْعَامِرِ، وَلَمْ يَذْكُرُوا الْعَامِرَ فَقَالُوا: لَكُمْ أَرْضُنَا فَلَهُمْ مِنْ أَرْضِهِمْ مَا وَصَفْت مِنْ الْعَامِرِ وَالْعَامِرُ مَا فِيهِ أَثَرُ عِمَارَةٍ أَوْ ظَهَرَ عَلَيْهِ النَّهْرُ، أَوْ عُرِفَتْ عِمَارَتُهُ بِوَجْهٍ وَمَا كَانَ مِنْ الْمَوَاتِ فِي بِلاَدِهِمْ فَمَنْ أَرَادَ إقْطَاعَهُ مِمَّنْ صَالَحَ عَلَيْهِ، أَوْ لَمْ يُصَالِحْ أَوْ عَمَرَهُ مِمَّنْ صَالَحَ، أَوْ لَمْ يُصَالِحْ فَسَوَاءٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ غَيْرَ مَمْلُوكٍ كَمَا كَانَ عَفْوُ بِلاَدِ الْعَرَبِ غَيْرَ مَمْلُوكٍ لَهُمْ، وَلَوْ وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَى عَامِرِهَا وَمَوَاتِهَا كَانَ الْمَوَاتُ مَمْلُوكًا لِمَنْ مَلَكَ الْعَامِرَ كَمَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمَوَاتِ مِنْ بِلاَدِ الْمُسْلِمِينَ إذَا حَازَهُ رَجُلٌ يَجُوزُ الصُّلْحُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ إذَا جَازُوهُ دُونَ الْمُسْلِمِينَ فَمَنْ عَمِلَ فِي مَعْدِنٍ فِي أَرْضٍ مَلَّكَهَا لِوَاحِدِ، أَوْ جَمَاعَةٍ فَجَمِيعُ مَا خَرَجَ مِنْ الْمَعْدِنِ لِمَنْ مَلَكَ الْأَرْضَ، وَلاَ شَيْءَ لِلْعَامِلِ فِي عَمَلِهِ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ بِالْعَمَلِ وَمَنْ عَمِلَ فِي مَعْدِنٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ أَدَّى إلَى غَيْرِهِ نَصِيبَهُ مِمَّا خَرَجَ مِنْ الْمَعْدِنِ وَكَانَ مُتَطَوِّعًا بِالْعَمَلِ لاَ أَجْرَ لَهُ فِيهِ، وَإِنْ عَمِلَ بِإِذْنِهِ، أَوْ عَلَى أَنَّ لَهُ مَا خَرَجَ مِنْ عَمَلِهِ فَسَوَاءٌ وَأَكْثَرُ هَذَا أَنْ يَكُونَ هِبَةً لاَ يَعْرِفُهَا الْوَاهِبُ، وَلاَ الْمَوْهُوبُ لَهُ، وَلَمْ يَقْبِضْ فَالْآذِنُ فِي الْعَمَلِ وَالْقَائِلُ اعْمَلْ وَلَك مَا خَرَجَ مِنْ عَمَلِك سَوَاءٌ لَهُ الْخِيَارُ فِي أَنْ يُتِمَّ ذَلِكَ لِلْعَامِلِ، وَكَذَلِكَ أُحِبُّ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فَيَأْخُذَ نَصِيبَهُ مِمَّا خَرَجَ مِنْ غَلَّةٍ وَيَرْجِعَ عَلَيْهِ الْعَامِلُ بِأَجْرِ مِثْلِهِ فِي قَوْلِ مَنْ قَالَ: يَرْجِعُ وَلَيْسَ هَذَا كَالدَّابَّةِ يَأْذَنُ لَهُ فِي رُكُوبِهَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ عَرَفَ مَا أَعْطَاهُ وَقَبَضَهُ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: كَانَ يُقَالُ الْحَرَمُ دَارُ قُرَيْشٍ وَيَثْرِبُ دَارُ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ وَأَرْضُ كَذَا دَارُ بَنِي فُلاَنٍ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُمْ أَلْزَمُ النَّاسِ لَهَا وَأَنَّ مَنْ نَزَلَهَا غَيْرُهُمْ إنَّمَا يَنْزِلُهَا شَبِيهًا بِالْمُجْتَازِ وَعَلَى مَعْنَى أَنَّ لَهُمْ مِيَاهَهَا الَّتِي لاَ تَصْلُحُ مَسَاكِنُهَا إلَّا بِهَا، وَلَيْسَ مَا سَمَّتْهُ الْعَرَبُ مِنْ هَذَا دَارًا لِبَنِي فُلاَنٍ بِالْمُوجِبِ لَهُمْ أَنْ يَكُونَ مِلْكًا مِثْلَ مَا بَنَوْهُ، أَوْ زَرَعُوهُ أَوْ اخْتَبَرُوهُ؛ لِأَنَّهُ مَوَاتٌ أُحْيِيَ كَمَاءٍ نَزَلُوهُ مُجْتَازِينَ وَفَارَقُوهُ وَكَمَا يَحْيَا مَا قَارَبَ مَا عَمَرُوا، وَإِنَّمَا يَمْلِكُونَ بِمَا أَحْيَوْا مَا أَحْيَوْا، وَلاَ يَمْلِكُونَ مَا لَمْ يُحْيُوا.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَبَيَانُ مَا وَصَفْتُ فِي السُّنَّةِ ثُمَّ الْأَثَرِ مِنْهُ مَا وَصَفْت قَبْلَ هَذَا الْباب مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لاَ حِمًى إلَّا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ» ثُمَّ قَوْلِ عُمَرَ رضي الله عنه إنَّهَا لِبِلاَدِهِمْ، وَلَوْلاَ الْمَالُ الَّذِي أَحْمِلُ عَلَيْهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى مَا حَمَيْت عَلَيْهِمْ مِنْ بِلاَدِهِمْ شِبْرًا أَيْ أَنَّهَا تُنْسَبُ إلَيْهِمْ إذَا كَانُوا أَلْزَمَ النَّاسِ لَهَا وَأَمْنَعُهُ. أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ أَحْيَا مَوَاتًا فَهُوَ لَهُ وَلَيْسَ لِعِرْقِ ظَالِمٍ فِيهِ حَقٌّ».
قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَجِمَاعُ الْعِرْقِ الظَّالِمِ كُلُّ مَا حُفِرَ أَوْ غُرِسَ أَوْ بُنِيَ ظُلْمًا فِي حَقِّ امْرِئٍ بِغَيْرِ خُرُوجِهِ مِنْهُ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ طَاوُسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ أَحْيَا مَوَاتًا مِنْ الْأَرْضِ فَهُوَ لَهُ وَعَادِي الْأَرْضِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ ثُمَّ هِيَ لَكُمْ مِنِّي».
قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَفِي هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ وَغَيْرِهِمَا الدَّلاَلَةُ عَلَى أَنَّ الْمَوَاتَ لَيْسَ مِلْكًا لِأَحَدٍ بِعَيْنِهِ وَأَنَّ مَنْ أَحْيَا مَوَاتًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ لَهُ وَأَنَّ الْإِحْيَاءَ لَيْسَ هُوَ بِالنُّزُولِ فِيهِ وَمَا أَشْبَهَهُ وَأَنَّ الْإِحْيَاءَ الَّذِي يَعْرِفُهُ النَّاسُ هُوَ الْعِمَارَةُ بِالْحَجَرِ وَالْمَدَرِ وَالْحَفْرِ لِمَا بُنِيَ دُونَ اضْطِرَابِ الْأَبْنِيَةِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ وَمِنْ الدَّلِيلِ عَلَى مَا وَصَفْت أَيْضًا أَنَّ ابْنَ عُيَيْنَةَ أَخْبَرَنَا عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ جَعْدَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ أَقْطَعَ النَّاسَ الدُّورَ فَقَالَ حَيٌّ مِنْ بَنِي زُهْرَةَ يُقَالُ لَهُمْ بَنُو عَبْدِ بْنِ زُهْرَةَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَكَبَ عَنَّا ابْنُ أُمِّ عَبْدٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَلِمَ ابْتَعَثَنِي اللَّهُ إذًا؟ إنَّ اللَّهَ لاَ يُقَدِّسُ أُمَّةً لاَ يُؤْخَذُ لِلضَّعِيفِ فِيهِمْ حَقُّهُ».
قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَالْمَدِينَةُ بَيْنَ لاَبَتَيْنِ تُنْسَبُ إلَى أَهْلِهَا مِنْ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ وَمَنْ فِيهِ مِنْ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ لَمَّا كَانَتْ الْمَدِينَةُ صِنْفَيْنِ: أَحَدُهُمَا، مَعْمُورٌ بِبِنَاءٍ وَحَفْرٍ وَغِرَاسٍ وَزَرْعٍ، وَالْآخَرُ خَارِجٌ مِنْ ذَلِكَ فَأَقْطَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَارِجَ مِنْ ذَلِكَ مِنْ الصَّحْرَاءِ اسْتَدْلَلْنَا عَلَى أَنَّ الصَّحْرَاءَ، وَإِنْ كَانَتْ مَنْسُوبَةً إلَى حَيٍّ بِأَعْيَانِهِمْ لَيْسَتْ مِلْكًا لَهُمْ كَمُلْكِ مَا أَحْيَوْا وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ مَالِكًا أَخْبَرَنَا عَنْ ابْنِ هِشَامٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ النَّاسُ يَحْتَجِرُونَ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ عُمَرُ مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَوَاتًا فَهِيَ لَهُ. أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ الْقَاسِمِ الْأَزْرَقِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ نَضْلَةَ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ قَامَ بِفِنَاءِ دَارِهِ فَضَرَبَ بِرِجْلِهِ وَقَالَ: سَنَامُ الْأَرْضِ أَنَّ لَهَا أَسَنَامًا زَعَمَ ابْنُ فَرْقَدٍ الْأَسْلَمِيُّ أَنِّي لاَ أَعْرِفُ حَقِّي مِنْ حَقِّهِ، لِي بَيَاضُ الْمَرْوَةِ لَهُ سَوَادُهَا وَلِي مَا بَيْنَ كَذَا إلَى كَذَا فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَقَالَ: لَيْسَ لِأَحَدٍ إلَّا أَحَاطَتْ عَلَيْهِ جُدْرَانُهُ إنَّ إحْيَاءَ الْمَوَاتِ مَا يَكُونُ زَرْعًا أَوْ حَفْرًا، أَوْ يُحَاطُ بِالْجُدْرَانِ، وَهُوَ مِثْلُ إبْطَالِهِ التَّحْجِيرَ بِغَيْرِ مَا يَعْمُرُ بِهِ مِثْلُ مَا يَحْجُرُ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَإِذَا أَبَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَوَاتًا فَهِيَ لَهُ وَالْمَوَاتُ مَا لاَ مِلْكَ فِيهِ لِأَحَدٍ خَالِصًا دُونَ النَّاسِ فَلِلسُّلْطَانِ أَنْ يَقْطَعَ مَنْ طَلَبَ مَوَاتًا، فَإِذَا أَقْطَعَ كَتَبَ فِي كِتَابِهِ، وَلَمْ أَقْطَعْهُ حَقَّ مُسْلِمٍ، وَلاَ ضَرَرًا عَلَيْهِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَخَالَفَنَا فِي هَذَا بَعْضُ النَّاسِ فَقَالَ: لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَحْمِيَ مَوَاتًا إلَّا بِإِذْنِ سُلْطَانٍ وَرَجَعَ صَاحِبُهُ إلَى قَوْلِنَا فَقَالَ: وَعَطِيَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَثْبَتُ الْعَطَايَا فَمَنْ أَحْيَا مَوَاتًا فَهُوَ لَهُ بِعَطِيَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسَ لِلسُّلْطَانِ أَنْ يُعْطِيَ إنْسَانًا مَا لاَ يَحِلُّ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ مَوَاتٍ لاَ مَالِكَ لَهُ، أَوْ حَقٍّ لِغَيْرِهِ يَعْرِفُهُ لَهُ وَالسُّلْطَانُ لاَ يُحِلُّ لَهُ شَيْئًا، وَلاَ يُحَرِّمُهُ، وَلَوْ أَعْطَى السُّلْطَانُ أَحَدًا شَيْئًا لاَ يَحِلُّ لَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَخْذُهُ. أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْطَعَ الزُّبَيْرَ أَرْضًا، وَأَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه أَقْطَعَ الْعَقِيقَ وَقَالَ: أَيْنَ الْمُسْتَقْطِعُونَ مُنْذُ الْيَوْمِ أَخْبَرَنَاهُ مَالِكٌ عَنْ رَبِيعَةَ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَمَنْ أَقْطَعَهُ السُّلْطَانُ الْيَوْمَ قَطِيعًا، أَوْ تَحَجَّرَ أَرْضًا فَمَنَعَهَا مِنْ أَحَدٍ يَعْمُرُهَا، وَلَمْ يَعْمُرْهَا رَأَيْت لِلسُّلْطَانِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنْ يَقُولَ لَهُ هَذِهِ أَرْضٌ كَانَ الْمُسْلِمُونَ فِيهَا سَوَاءً لاَ يَمْنَعُهَا مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَإِنَّمَا أَعْطَيْنَاكَهَا، أَوْ تَرَكْنَاك وَجَوِّزْهَا؛ لِأَنَّا رَأَيْنَا الْعِمَارَةَ لَهَا غَيْرَ ضَرَرٍ بَيِّنٍ عَلَى جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ مَنْفَعَةً لَك وَلِلْمُسْلِمِينَ فِيهَا يَنَالُونَ مِنْ رِفْقِهَا فَإِنْ أَحْيَيْتهَا وَإِلَّا خَلَّيْنَا مَنْ أَرَادَ إحْيَاءَهَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَأَحْيَاهَا فَإِنْ أَرَادَ أَجَلاً رَأَيْت أَنْ يُؤَجَّلَ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَإِذَا كَانَ هَذَا هَكَذَا كَانَ لِلسُّلْطَانِ أَنْ لاَ يُعْطِيَهُ، وَلاَ يَدَعَهُ يَتَحَجَّرُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ شَيْئًا لاَ يَعْمُرُهُ، وَلَمْ يَدَعْهُ أَنْ يَتَحَجَّرَ كَثِيرًا يَعْلَمُهُ لاَ يَقْوَى عَلَيْهِ وَتَرَكَهُ وَعِمَارَةُ مَا يَقْوَى عَلَيْهِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَإِنْ كَانَتْ أَرْضًا يَطْلُبُ غَيْرَ وَاحِدٍ عِمَارَتَهَا، فَإِنْ كَانَتْ تُنْسَبُ إلَى قَوْمٍ فَطَلَبهَا بَعْضُهُمْ وَغَيْرُهُمْ كَانَ أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يُعْطِيَهَا مَنْ تُنْسَبُ إلَيْهِمْ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَلَوْ أَعْطَاهَا الْإِمَامُ غَيْرَهُمْ لَمْ أَرَ بِذَلِكَ بَأْسًا إنْ كَانَتْ غَيْرَ مَمْلُوكَةٍ لِأَحَدٍ، وَلَوْ تَشَاحُّوا فِيهَا فَضَاقَتْ عَنْ أَنْ تَسَعَهُمْ رَأَيْت أَنْ يُقْرِعَ بَيْنَهُمْ فَأَيُّهُمْ خَرَجَ سَهْمُهُ أَعْطَاهُ إيَّاهَا، وَلَوْ أَعْطَاهُمْ بِغَيْرِ قُرْعَةٍ لَمْ أَرَ عَلَيْهِ بَأْسًا إنْ شَاءَ اللَّهُ، وَإِنْ اتَّسَعَ الْمَوْضِعُ أَقْطَعَ مَنْ طَلَبَ مِنْهُ فَإِنْ بَدَأَ بِأَحَدٍ فَأَقْطَعَهُ تَرَكَ لَهُ حَرِيمًا لِلطَّرِيقِ وَمَسِيلاً لِلْمَاءِ وَمَغِيضَةً وَكُلَّ مَا لاَ صَلاَحَ لِمَا أَقْطَعَهُ إلَّا بِهِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه اسْتَعْمَلَ مَوْلًى لَهُ يُقَالُ لَهُ هُنَيٌّ عَلَى الْحِمَى فَقَالَ لَهُ يَا هُنَيُّ ضُمَّ جُنَاحَك لِلنَّاسِ وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ، فَإِنَّ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ مُجَابَةٌ وَأَدْخِلْ رَبَّ الصَّرِيمَةِ وَالْغَنِيمَةِ وَإِيَّايَ وَنَعَمَ ابْنِ عَفَّانَ وَنَعَمَ ابْنِ عَوْفٍ فَإِنَّهُمَا إنْ تَهْلِكْ مَاشِيَتُهُمَا يَرْجِعَانِ إلَى نَخْلٍ وَزَرْعٍ، وَإِنَّ رَبَّ الصَّرِيمَةِ وَالْغَنِيمَةِ يَأْتِي بِعِيَالِهِ فَيَقُولُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَفَتَارِكُهُمْ أَنَا لاَ أَبَا لَك فَالْمَاءُ وَالْكَلاَُ أَهْوَنُ عَلَيَّ مِنْ الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ وَاَيْمُ اللَّهِ لَعَلَى ذَلِكَ إنَّهُمْ لَيَرَوْنَ أَنِّي قَدْ ظَلَمَتْهُمْ إنَّهَا لِبِلاَدِهِمْ قَاتَلُوا عَلَيْهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَأَسْلَمُوا عَلَيْهَا فِي الْإِسْلاَمِ، وَلَوْلاَ الْمَالُ الَّذِي أَحْمِلُ عَلَيْهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا حَمَيْت عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ بِلاَدِهِمْ شِبْرًا فَقَالَ: وَلَوْ ثَبَتَ هَذَا عَنْ عُمَرَ بِإِسْنَادٍ مَوْصُولٍ أَخَذْت بِهِ، وَهَذَا أَشْبَهُ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه مِنْ أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَحَجَّرَ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لاَ حِمًى إلَّا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ». وَحَدَّثَنَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَمَى النَّقِيعَ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: كَانَ الرَّجُلُ الْعَزِيزُ مِنْ الْعَرَبِ إذَا انْتَجَعَ بَلَدًا مُخْصِبًا أَوْفَى بِكَلْبٍ عَلَى جَبَلٍ إنْ كَانَ بِهِ، أَوْ نَشَزَ إنْ لَمْ يَكُنْ جَبَلٌ ثُمَّ اسْتَعْوَاهُ وَوَقَفَ لَهُ مَنْ يَسْمَعُ مُنْتَهَى صَوْتِهِ بِالْعُوَاءِ فَحَيْثُ بَلَغَ صَوْتُهُ حَمَاهُ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ فَيَرْعَى مَعَ الْعَامَّةِ فِيمَا سِوَاهُ وَيَمْنَعُ هَذَا مِنْ غَيْرِهِ لِضُعَفَاءِ سَائِمَتِهِ وَمَا أَرَادَ قَرْنَهُ مَعَهَا فَيَرْعَى مَعَهَا فَنَرَى أَنَّ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ: «لاَ حِمَى إلَّا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ» لاَ حِمَى عَلَى هَذَا الْمَعْنَى الْخَاصِّ وَأَنَّ قَوْلَهُ لِلَّهِ كُلُّ مَحْمِيٍّ وَغَيْرِهِ وَرَسُولِهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا كَانَ يَحْمِي لِصَلاَحِ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ لاَ لِمَا يَحْمِي لَهُ غَيْرُهُ مِنْ خَاصَّةِ نَفْسِهِ وَذَلِكَ أَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ يَمْلِكُ إلَّا مَا لاَ غِنَاءَ بِهِ وَبِعِيَالِهِ عَنْهُ وَمَصْلَحَتِهِمْ حَتَّى يَصِيرَ مَا مَلَّكَهُ اللَّهُ مِنْ خُمْسِ الْخُمْسِ مَرْدُودًا فِي مَصْلَحَتِهِمْ، وَكَذَلِكَ مَالُهُ إذَا حَبَسَ فَوْقَ سَنَتِهِ مَرْدُودًا فِي مَصْلَحَتِهِمْ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلاَحِ عِدَّةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأَنَّ مَالَهُ وَنَفْسَهُ كَانَ مُفْرَغًا لِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَزَاهُ أَفْضَلَ مَا جَزَى بِهِ نَبِيًّا عَنْ أُمَّتِهِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَالْحِمَى لَيْسَ بِإِحْيَاءِ مَوَاتٍ فَيَكُونُ لِمَنْ أَحْيَاهُ بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لاَ حِمَى إلَّا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ» يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ لاَ يَكُونَ لِأَحَدٍ أَنْ يَحْمِيَ لِلْمُسْلِمِينَ غَيْرَ مَا حَمَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ ذَهَبَ هَذَا الْمَذْهَبَ قَالَ: يَحْمِي الْوَالِي كَمَا حَمَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْبِلاَدِ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَا حَمَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلاَ يَكُونُ لِوَالٍ إنْ رَأَى صَلاَحًا لِعَامَّةِ مَنْ حَمَى أَنْ يَحْمِيَ بِحَالٍ شَيْئًا مِنْ بِلاَدِ الْمُسْلِمِينَ. وَالْمَعْنَى الثَّانِي أَنَّ قَوْلَهُ «لاَ حِمًى إلَّا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ» يَحْتَمِلُ لاَ حِمًى إلَّا عَلَى مِثْلِ مَا حَمَى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ ذَهَبَ هَذَا الْمَذْهَبَ قَالَ: لِلْخَلِيفَةِ خَاصَّةً دُونَ الْوُلاَةِ أَنْ يَحْمِيَ عَلَى مِثْلِ مَا حَمَى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: وَاَلَّذِي عَرَفْنَاهُ نَصًّا وَدَلاَلَةً فِيمَا حَمَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ حَمَى لِنَقِيعٍ وَالنَّقِيعُ بَلَدٌ لَيْسَ بِالْوَاسِعِ الَّذِي إذَا حُمِيَ ضَاقَتْ الْبِلاَدُ بِأَهْلِ الْمَوَاشِي حَوْلَهُ حَتَّى يَدْخُلَ ذَلِكَ الضَّرَرُ عَلَى مَوَاشِيهِمْ، أَوْ أَنْفُسِهِمْ كَانُوا يَجِدُونَ فِيمَا سِوَاهُ مِنْ الْبِلاَدِ سَعَةً لِأَنْفُسِهِمْ وَمَوَاشِيهِمْ وَأَنَّ مَا سِوَاهُ مِمَّا لاَ يُحْمَى أَوْسَعُ مِنْهُ وَأَنَّ النَّجْعَ يُمْكِنُهُمْ فِيهِ وَأَنَّهُ لَوْ تُرِكَ فَكَانَ أَوْسَعَ عَلَيْهِمْ لاَ يَقَعُ مَوْقِعَ ضَرَرٍ بَيِّنٍ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُ قَلِيلٌ مِنْ كَثِيرٍ غَيْرِ مُجَاوِزٍ الْقَدْرَ، وَفِيهِ صَلاَحٌ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ بِأَنْ تَكُونَ الْخَيْلُ الْمُعَدَّةُ لِسَبِيلِ اللَّهِ وَمَا فَضَلَ مِنْ سُهْمَانِ أَهْلِ الصَّدَقَاتِ وَمَا فَضَلَ مِنْ النَّعَمِ الَّتِي تُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الْجِزْيَةِ تُرْعَى فِيهِ فَأَمَّا الْخَيْلُ فَقُوَّةٌ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَمَّا نَعَمُ الْجِزْيَةِ فَقُوَّةٌ لِأَهْلِ الْفَيْءِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَمَسْلَكُ سُبُلِ الْخَيْرِ أَنَّهَا لِأَهْلِ الْفَيْءِ الْمُحَامِينَ الْمُجَاهِدِينَ قَالَ: وَأَمَّا الْإِبِلُ الَّتِي تَفْضُلُ عَنْ سُهْمَانِ أَهْلِ الصَّدَقَةِ فَيُعَادُ بِهَا عَلَى أَهْلِ سُهْمَانِ الصَّدَقَةِ لاَ يَبْقَى مُسْلِمٌ إلَّا دَخَلَ عَلَيْهِ مِنْ هَذَا صَلاَحٌ فِي دِينِهِ وَنَفْسِهِ وَمَنْ يَلْزَمُهُ أَمْرُهُ مِنْ قَرِيبٍ، أَوْ عَامَّةٍ مِنْ مُسْتَحَقِّي الْمُسْلِمِينَ فَكَانَ مَا حُمِيَ عَنْ خَاصَّتِهِمْ أَعْظَمُ مَنْفَعَةً لِعَامَّتِهِمْ مِنْ أَهْلِ دِينِهِمْ وَقُوَّةً عَلَى مَنْ خَالَفَ دِينَ اللَّهِ مِنْ عَدُوِّهِمْ وَحَمَى الْقَلِيلَ الَّذِي حَمَى عَنْ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَخَوَاصِّ قَرَابَاتِهِمْ الَّذِينَ فَرَضَ اللَّهُ لَهُمْ الْحَقَّ فِي أَمْوَالِهِمْ، وَلَمْ يَحْمِ عَنْهُمْ شَيْئًا مَلَكُوهُ بِحَالٍ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَقَدْ حَمَى مَنْ حَمَى عَلَى هَذَا الْمَعْنَى وَأَمَرَ أَنْ يُدْخِلَ الْحِمَى مَاشِيَةً مِنْ ضَعْفٍ عَنْ النُّجْعَةِ مِمَّنْ حَوْلَ الْحِمَى وَيَمْنَعُ مَاشِيَةً مَنْ قَوِيَ عَلَى النُّجْعَةِ فَيَكُونُ الْحِمَى مَعَ قِلَّةِ ضَرَرِهِ أَعَمَّ مَنْفَعَةً مِنْ أَكْثَرِ مِنْهُ مِمَّا لَمْ يُحْمَ، وَقَدْ حَمَى بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمَرَ رضي الله عنه أَرْضًا لَمْ نَعْلَمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَمَاهَا وَأَمَرَ فِيهَا بِنَحْوٍ مِمَّا وَصَفْت مِنْ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِمَنْ حَمَى أَنْ يَأْمُرَ بِهِ. أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عُمَرَ اسْتَعْمَلَ مَوْلًى لَهُ يُقَالُ هُنَيٌّ عَلَى الْحِمَى فَقَالَ لَهُ يَا هُنَيُّ ضُمَّ جَنَاحَك لِلنَّاسِ وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ، فَإِنَّ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ مُجَابَةٌ وَأَدْخِلْ رَبَّ الصَّرِيمَةِ وَرَبَّ الْغَنِيمَةِ وَإِيَّايَ وَنَعَمَ ابْنِ عَفَّانَ وَنَعَمَ ابْنِ عَوْفٍ فَإِنَّهُمَا إنْ تَهْلِكْ مَاشِيَتُهُمَا يَرْجِعَانِ إلَى نَخْلٍ وَزَرْعٍ، وَإِنَّ رَبَّ الْغَنِيمَةِ وَالصَّرِيمَةِ يَأْتِي بِعِيَالِهِ فَيَقُولُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَفَتَارِكُهُمْ أَنَا لاَ أَبَا لَك فَالْمَاءُ وَالْكَلاَُ أَهْوَنُ عَلَيَّ مِنْ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَاَيْمُ اللَّهِ لَعَلَى ذَلِكَ إنَّهُمْ لَيَرَوْنَ أَنِّي قَدْ ظَلَمْتُهُمْ إنَّهَا لِبِلاَدِهِمْ قَاتَلُوا عَلَيْهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَأَسْلَمُوا عَلَيْهَا فِي الْإِسْلاَمِ، وَلَوْلاَ الْمَالُ الَّذِي أَحْمِلُ عَلَيْهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا حَمَيْت عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ بِلاَدِهِمْ شِبْرًا.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: فِي مَعْنَى قَوْلِ عُمَرَ إنَّهُمْ يَرَوْنِي أَنِّي قَدْ ظَلَمْتُهُمْ إنَّهَا لَبِلاَدُهُمْ قَاتَلُوا عَلَيْهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَسْلَمُوا عَلَيْهَا فِي الْإِسْلاَمِ إنَّهُمْ يَقُولُونَ إنْ مَنَعْت لِأَحَدٍ مِنْ أَحَدٍ مَنْ قَاتَلَ عَلَيْهَا وَأَسْلَمَ أَوْلَى أَنْ تَمْنَعَ لَهُ، وَهَذَا كَمَا قَالَ: لَوْ كَانَتْ تُمْنَعُ لِخَاصَّةٍ فَلِمَا كَانَ لِعَامَّةٍ لَمْ يَكُنْ فِي هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ مَظْلِمَةٌ. وَقَوْلُ عُمَرَ: لَوْلاَ الْمَالُ الَّذِي أَحْمِلُ عَلَيْهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا حَمَيْت عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ بِلاَدِهِمْ شِبْرًا إنِّي لَمْ أَحْمِهَا لِنَفْسِي، وَلاَ لِخَاصَّتِي وَإِنِّي حَمَيْتهَا لِمَالِ اللَّهِ الَّذِي أَحْمِلُ عَلَيْهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَكَانَتْ مِنْ أَكْثَرِ مَا عِنْدَهُ مِمَّا يَحْتَاجُ إلَى الْحِمَى فَنَسَبَ الْحِمَى إلَيْهَا لِكَثْرَتِهَا، وَقَدْ أَدْخَلَ الْحِمَى خَيْلَ الْغُزَاةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَمْ يَكُنْ مَا حَمَى لِيُحْمَلَ عَلَيْهِ أَوْلَى بِمَا عِنْدَهُ مِنْ الْحِمَى مِمَّا تَرَكَهُ أَهْلُهُ وَيَحْمِلُونَ عَلَيْهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ؛ لِأَنَّ كُلًّا لِتَعْزِيرِ الْإِسْلاَمِ، وَأَدْخَلَ فِيهَا إبِلَ الضَّوَالِّ؛ لِأَنَّهَا قَلِيلٌ لِعَوَامَّ مِنْ أَهْلِ الْبُلْدَانِ وَأَدْخَلَ فِيهَا مَا فَضَلَ مِنْ سُهْمَانِ أَهْلِ الصَّدَقَةِ مِنْ إبِلِ الصَّدَقَةِ وَهُمْ عَوَامُّ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَحْتَاجُونَ إلَى مَا جَعَلَ مَعَ إدْخَالِهِ مَنْ ضَعُفَ عَنْ النُّجْعَةِ مِمَّنْ قَلَّ مَالُهُ، وَفِي تَمَاسُكِ أَمْوَالِهِمْ عَلَيْهِمْ غِنًى عَنْ أَنْ يُدْخَلُوا عَلَى أَهْلِ الْفَيْءِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَكُلُّ هَذَا وَجْهُ عَامِّ النَّفْعِ لِلْمُسْلِمِينَ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: أَخْبَرَنِي عَمِّي مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ عَنْ الثِّقَةِ أَحْسَبُهُ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ، أَوْ غَيْرَهُ عَنْ مَوْلًى لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رضي الله عنه قَالَ: بَيْنَا أَنَا مَعَ عُثْمَانَ فِي مَالِهِ بِالْعَالِيَةِ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ إذْ رَأَى رَجُلاً يَسُوقُ بِكْرَيْنِ وَعَلَى الْأَرْضِ مِثْلُ الْفِرَاشِ مِنْ الْحَرِّ فَقَالَ: مَا عَلَى هَذَا لَوْ أَقَامَ بِالْمَدِينَةِ حَتَّى يَبْرُدَ ثُمَّ يَرُوحَ ثُمَّ دَنَا الرَّجُلُ فَقَالَ: اُنْظُرْ مَنْ هَذَا فَقُلْتُ أَنَا رَجُلاً مُعَمَّمًا بِرِدَائِهِ يَسُوقُ بِكْرَيْنِ ثُمَّ دَنَا الرَّجُلُ فَقَالَ: اُنْظُرْ فَنَظَرْت، فَإِذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَقُلْت هَذَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فَقَامَ عُثْمَانُ فَأَخْرَجَ رَأْسَهُ مِنْ الْباب فَأَدَّاهُ لَفْحُ السَّمُومِ فَأَعَادَ رَأْسَهُ حَتَّى حَاذَاهُ فَقَالَ: مَا أَخْرَجَك هَذِهِ السَّاعَةَ؟ فَقَالَ: بِكْرَانِ مِنْ إبِلِ الصَّدَقَةِ تَخَلَّفَا، وَقَدْ مَضَى بِإِبِلِ الصَّدَقَةِ فَأَرَدْت أَنْ أَلْحَقَهُمَا بِالْحِمَى وَخَشِيت أَنْ يَضِيعَا فَيَسْأَلَنِي اللَّهُ عَنْهُمَا فَقَالَ عُثْمَانُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَلُمَّ إلَى السَّمَاءِ وَالظِّلِّ وَتَكْفِيك فَقَالَ: عُدْ إلَى ظِلِّك فَقُلْت عِنْدَنَا مَنْ يَكْفِيك فَقَالَ: عُدْ إلَى ظِلِّك فَمَضَى فَقَالَ عُثْمَانُ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْظُرَ إلَى الْقَوِيِّ الْأَمِينِ فَلْيَنْظُرْ إلَى هَذَا فَعَادَ إلَيْنَا فَأَلْقَى نَفْسَهُ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: فِي حِكَايَةِ قَوْلِ عُمَرَ لِعُثْمَانَ فِي الْبِكْرَيْنِ اللَّذَيْنِ تَخَلَّفَا وَقَوْلِ عُثْمَانَ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْظُرَ إلَى الْقَوِيِّ الْأَمِينِ فَلْيَنْظُرْ إلَى هَذَا أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ يَعْنِي بِمَا حَكَاهُ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَإِنْ كَانَ لِلْخَلِيفَةِ مَالٌ يُحْمَلُ عَلَيْهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مِنْ إبِلٍ وَخَيْلٍ فَلاَ بَأْسَ أَنْ يُدْخِلَهَا الْحِمَى، وَإِنْ كَانَ مِنْهَا مَالٌ لِنَفْسِهِ فَلاَ يُدْخِلُهَا الْحِمَى فَإِنَّهُ إنْ يَفْعَلْ ظَلَمَ؛ لِأَنَّهُ مَنَعَ مِنْهُ وَأَدْخَلَ لِنَفْسِهِ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْقُوَّةِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَهَكَذَا مَنْ كَانَ لَهُ مَالٌ يَحْمِلُ عَلَيْهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ دُونَ الْخَلِيفَةِ قَالَ: وَمَنْ سَأَلَ الْوَالِيَ أَنْ يُقْطِعَهُ فِي الْحِمَى مَوْضِعًا يُعَمِّرُهُ فَإِنْ كَانَ حِمَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ إلَّا مَنْعُهُ إيَّاهُ وَأَنَّ عُمَرَ أَبْطَلَ عِمَارَتَهُ وَكَانَ كَمَنْ عَمَرَ فِيمَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْمُرَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ حِمًى أُحْدِثَ بَعْدَهُ فَكَانَ يَرَى الْحِمَى حَقًّا كَانَ لَهُ مَنْعُهُ ذَلِكَ، وَإِنْ أَرَادَ الْعِمَارَةَ كَانَ لَهُ مَنْعُهُ الْعِمَارَةَ، وَإِنْ سَبَقَ فَعَمَرَ لَمْ يَبِنْ لِي أَنْ تَبْطُلَ عِمَارَتُهُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَيُحْتَمَلُ إذَا جَعَلَ الْحِمَى حَقًّا وَكَانَ هُوَ فِي مَعْنَى مَا حَمَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لِأَنَّهُ حَمَى لِمِثْلِ مَا حَمَاهُ لَهُ أَنْ يُبْطِلَ عِمَارَتَهُ، وَإِنْ أَذِنَ لَهُ الْوَالِي بِعِمَارَةٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ إبْطَالُ عِمَارَتِهِ؛ لِأَنَّ إذْنَهُ لَهُ إخْرَاجٌ لَهُ مِنْ الْحِمَى، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يُخْرِجَ مَا أَحْدَثَ حِمَاهُ مِنْ الْحِمَى وَيَحْمِيَ غَيْرَهُ إذَا كَانَ غَيْرَ ضَرَرٍ عَلَى مَنْ حَمَاهُ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ لِلْوَالِي بِحَالٍ أَنْ يَحْمِيَ مِنْ الْأَرْضِ إلَّا أَقَلَّهَا، وَقَدْ يُوَسِّعُ الْحِمَى حَتَّى يَقَعَ مَوْقِعًا وَيُبَيِّنُ ضَرَرَهُ عَلَى مَنْ حَمَى عَلَيْهِ، وَمَا أَحْدَثَ مِنْ حِمًى فَرَعَاهُ أَحَدٌ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِي رَعِيَّتِهِ شَيْءٌ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يَمْنَعَ رَعِيَّتَهُ، فَأَمَّا غُرْمٌ، أَوْ عُقُوبَةٌ فَلاَ أَعْلَمُهُ عَلَيْهِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ مَنَعَ فُضُولَ الْمَاءِ لِيَمْنَعَ بِهِ الْكَلاََ مَنَعَهُ اللَّهُ فَضْلَ رَحْمَتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».
قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مَا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَمْنَعَ فَضْلَ مَائِهِ، وَإِنَّمَا يَمْنَعُ فَضْلَ رَحْمَةِ اللَّهِ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ فَلَمَّا كَانَ مَنْعُ فَضْلِ الْمَاءِ مَعْصِيَةً لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مَنْعُ فَضْلِ الْمَاءِ، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلاَلَةٌ عَلَى أَنَّ مَالِكَ الْمَاءِ أَوْلَى أَنْ يُشْرِبَ بِهِ وَيَسْقِيَ وَأَنَّهُ إنَّمَا يُعْطِي فَضْلَهُ عَمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ مَنَعَ فَضْلَ الْمَاءِ لِيَمْنَعَ بِهِ الْكَلاََ مَنَعَهُ اللَّهُ فَضْلَ رَحْمَتِهِ». وَفَضْلُ الْمَاءِ الْفَضْلُ عَنْ حَاجَةِ مَالِكِ الْمَاءِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَهَذَا أَوْضَحُ حَدِيثٍ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَاءِ، وَأَشْبَهُ مَعْنًى؛ لِأَنَّ مَالِكًا رَوَى عَنْ أَبِي الرِّجَالِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لاَ يَمْنَعُ نَفْعَ الْبِئْرِ». قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَكَانَ هَذَا جُمْلَةً نَدَبَ الْمُسْلِمُونَ إلَيْهَا فِي الْمَاءِ، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَصَحُّهَا وَأَبْيَنُهَا مَعْنًى. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَكُلُّ مَاءٍ بِبَادِيَةٍ يَزِيدُ فِي عَيْنٍ، أَوْ بِئْرٍ، أَوْ غِيلٍ أَوْ نَهْرٍ بَلَغَ مَالِكُهُ مِنْهُ حَاجَتَهُ لِنَفْسِهِ وَمَاشِيَتِهِ وَزَرْعٍ إنْ كَانَ لَهُ فَلَيْسَ لَهُ مَنْعُ فَضْلِهِ عَنْ حَاجَتِهِ مِنْ أَحَدٍ يَشْرَبُ، أَوْ يَسْقِي ذَا رُوحٍ خَاصَّةٍ دُونَ الزَّرْعِ وَلَيْسَ لِغَيْرِهِ أَنْ يَسْقِيَ مِنْهُ زَرْعًا، وَلاَ شَجَرًا إلَّا أَنْ يَتَطَوَّعَ بِذَلِكَ مَالِكُ الْمَاءِ، وَإِذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ مَنَعَ فَضْلَ الْمَاءِ لِيَمْنَعَ بِهِ الْكَلاََ مَنَعَهُ اللَّهُ فَضْلَ رَحْمَتِهِ». فَفِي هَذَا دَلاَلَةٌ إذَا كَانَ الْكَلاَُ شَيْئًا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ أَنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ رِزْقُهُ خَلْقَهُ عَامَّةً لِلْمُسْلِمِينَ وَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَمْنَعَهَا مَنْ أَحَدٍ إلَّا بِمَعْنَى مَا وَصَفْنَا مِنْ السُّنَّةِ وَالْأَثَرِ الَّذِي فِي مَعْنَى السُّنَّةِ، وَفِي مَنْعِ الْمَاءِ لِيَمْنَعَ بِهِ الْكَلاََ الَّذِي هُوَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ عَامٌّ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ مَا كَانَ ذَرِيعَةً إلَى مَنْعِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَمْ يَحِلَّ، وَكَذَلِكَ مَا كَانَ ذَرِيعَةً إلَى إحْلاَلِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَإِنْ كَانَ هَذَا هَكَذَا فَفِي هَذَا مَا يُثْبِتُ أَنَّ الذَّرَائِعَ إلَى الْحَلاَلِ وَالْحَرَامِ تُشْبِهُ مَعَانِيَ الْحَلاَلِ وَالْحَرَامِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَنْعُ الْمَاءِ إنَّمَا يَحْرُمُ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى تَلَفٍ عَلَى مَا لاَ غِنَى بِهِ لِذَوِي الْأَرْوَاحِ وَالْآدَمِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ، فَإِذَا مَنَعُوا فَضْلَ الْمَاءِ مَنَعُوا فَضْلَ الْكَلاَِ، وَالْمَعْنَى الْأَوَّلُ أَشْبَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، فَلَوْ أَنَّ جَمَاعَةً كَانَ لَهُمْ مِيَاهٌ بِبَادِيَةٍ فَسَقَوْا بِهَا وَاسْتَقَوْا، وَفَضَلَ مِنْهَا شَيْءٌ فَجَاءَ مَنْ لاَ مَاءَ لَهُ يَطْلُبُ أَنْ يَشْرَبَ أَوْ يَسْقِيَ إلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ دُونَ وَاحِدٍ لَمْ يَجُزْ لِمَنْ مَعَهُ فَضْلٌ مِنْ الْمَاءِ، وَإِنْ قَلَّ مَنَعَهُ إيَّاهُ إنْ كَانَ فِي عَيْنٍ، أَوْ بِئْرٍ، أَوْ نَهْرٍ، أَوْ غَيْلٍ؛ لِأَنَّهُ فَضْلُ مَاءٍ يَزِيدُ وَيَسْتَخْلِفُ، وَإِنْ كَانَ الْمَاءُ فِي سِقَاءٍ، أَوْ جَرَّةٍ، أَوْ وِعَاءٍ مَا كَانَ، فَهُوَ مُخْتَلِفٌ لِلْمَاءِ الَّذِي يَسْتَخْلِفُ فَلِصَاحِبِهِ مَنْعُهُ، وَهُوَ كَطَعَامِهِ إلَّا أَنْ يُضْطَرَّ إلَيْهِ مُسْلِمٌ وَالضَّرُورَةُ أَنْ يَكُونَ لاَ يَجِدُ غَيْرَهُ بِشِرَاءٍ، أَوْ يَجِدُ بِشِرَاءٍ، وَلاَ يَجِدُ ثَمَنًا فَلاَ يَسَعُ عِنْدِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مَنْعُهُ؛ لِأَنَّ فِي مَنْعِهِ تَلَفًا لَهُ، وَقَدْ وُجِدَتْ السُّنَّةُ تُوجِبُ الضِّيَافَةَ بِالْبَادِيَةِ وَالْمَاءُ أَعَزُّ فَقْدًا وَأَقْرَبُ مِنْ أَنْ يَتْلَفَ مِنْ مَنْعِهِ وَأَخَفُّ مُؤْنَةً عَلَى مَنْ أَخَذَ مِنْهُ مِنْ الطَّعَامِ فَلاَ أَرَى مَنْ مَنَعَ الْمَاءِ فِي هَذِهِ الْحَالِ إلَّا آثِمًا إذَا كَانَ مَعَهُ فَضْلٌ مِنْ مَاءٍ فِي وِعَاءٍ، فَأَمَّا مَنْ وَجَدَ غِنًى عَنْ الْمَاءِ بِمَاءٍ غَيْرِ مَاءِ صَاحِبِ الْوِعَاءِ فَأَرْجُو أَنْ لاَ يَخْرُجَ مِنْ مَنْعِهِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ جَعْدَةَ قَالَ: «لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ أَقْطَعَ النَّاسَ الدُّورَ فَقَالَ حَيٌّ مِنْ بَنِي زُهْرَةَ يُقَالُ لَهُمْ بَنُو عَبْدِ بْنُ زُهْرَةَ نَكَبَ عَنَّا ابْنُ أُمِّ عَبْدٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَلِمَ ابْتَعَثَنِي اللَّهُ إذًا؟ إنَّ اللَّهَ لاَ يُقَدِّسُ أُمَّةً لاَ يُؤْخَذُ لِلضَّعِيفِ فِيهِمْ حَقُّهُ». قَالَ الشَّافِعِيُّ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلاَئِلُ: مِنْهَا أَنَّ حَقًّا عَلَى الْوَالِي إقْطَاعَ مَنْ سَأَلَهُ الْقَطِيعَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنَّ اللَّهَ لاَ يُقَدِّسُ أُمَّةً لاَ يُؤْخَذُ لِلضَّعِيفِ فِيهِمْ حَقُّهُ» دَلاَلَةً أَنَّ لِمَنْ سَأَلَهُ الْإِقْطَاعَ أَنْ يُؤْخَذَ لِلضَّعِيفِ فِيهِمْ حَقُّهُ وَغَيْرِهِ وَدَلاَلَةٌ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْطَعَ النَّاسَ بِالْمَدِينَةِ وَذَلِكَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ عِمَارَةِ الْأَنْصَارِ مِنْ الْمَنَازِلِ وَالنَّخْلِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ بِالْعَامِرِ مَنْعُ غَيْرِ الْعَامِرِ، وَلَوْ كَانَ لَهُمْ لَمْ يَقْطَعْهُ النَّاسَ، وَفِي هَذَا دَلاَلَةٌ عَلَى أَنَّ مَا قَارَبَ الْعَامِرَ وَكَانَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِ وَمَا لَمْ يُقَارِبْ مِنْ الْمَوَاتِ سَوَاءٌ فِي أَنَّهُ لاَ مَالِكَ لَهُ فَعَلَى السُّلْطَانِ إقْطَاعُهُ مِمَّنْ سَأَلَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْطَعَ الزُّبَيْرَ أَرْضًا، وَأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَقْطَعَ الْعَقِيقَ أَجْمَعَ وَقَالَ أَيْنَ الْمُسْتَقْطِعُونَ؟ قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَالْعَقِيقُ قَرِيبٌ مِنْ الْمَدِينَةِ وَقَوْلُهُ أَيْنَ الْمُسْتَقْطِعُونَ نَقْطَعُهُمْ، وَإِنَّمَا أَقْطَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ عُمَرُ وَمَنْ أَقْطَعَ مَا لاَ يَمْلِكُهُ أَحَدٌ يُعْرَفُ مِنْ الْمَوَاتِ، وَفِي قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَحْيَا مَوَاتًا فَهُوَ لَهُ» دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ أَحْيَا مَوَاتًا كَانَ لَهُ كَمَا يَكُونُ لَهُ إنْ أَقْطَعَهُ وَاتِّبَاعٌ فِي أَنْ يَمْلِكَ مَنْ أَحْيَا الْمَوَاتَ مَا أَحْيَا كَاتِّبَاعِ أَمْرِهِ فِي أَنْ يَقْطَعَ الْمَوَاتَ مَنْ يُحْيِيهِ لاَ فَرْقَ بَيْنَهُمَا، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَقْطَعَ الْمَوَاتَ مَنْ يُحْيِيهِ وَلاَ مَالِكَ لَهُ، وَإِذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَحْيَا مَوَاتًا فَهُوَ لَهُ» فَعَطِيَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَّةٌ لِمَنْ أَحْيَا الْمَوَاتَ فَمَنْ أَحْيَا الْمَوَاتَ فَبِعَطِيَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْيَاهُ، وَعَطِيَّتُهُ فِي الْجُمْلَةِ أَثْبَتُ مِنْ عَطِيَّةِ مَنْ بَعْدَهُ فِي النَّصِّ وَالْجُمْلَةِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ مِثْلُ هَذَا الْمَعْنَى لاَ يُخَالِفُهُ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: الرِّكَازُ دَفْنُ الْجَاهِلِيَّةِ أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لاَ حِمَى إلَّا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ». قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَلَمَّا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لاَ حِمًى إلَّا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ» لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ أَنْ يَنْزِلَ بَلَدًا غَيْرَ مَعْمُورٍ فَيَمْنَعَ مِنْهُ شَيْئًا يَرْعَاهُ دُونَ غَيْرِهِ وَذَلِكَ أَنَّ الْبِلاَدَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لاَ مَالِكَ لَهَا مِنْ الْآدَمِيِّينَ، وَإِنَّمَا سَلَّطَ اللَّهُ الْآدَمِيِّينَ عَلَى مَنْعِ مَالِهِمْ خَاصَّةً لاَ مَنْعِ مَا لَيْسَ لِأَحَدٍ بِعَيْنِهِ وَقَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لاَ حِمًى إلَّا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ» أَنْ لاَ حِمًى إلَّا حِمَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَلاَحِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ هُمْ شُرَكَاءُ فِي بِلاَدِ اللَّهِ لَيْسَ أَنَّهُ حِمًى لِنَفْسِهِ دُونَهُمْ وَلِوُلاَةِ الْأَمْرِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَحْمُوا مِنْ الْأَرْضِ شَيْئًا لِمَنْ يَحْتَاجُ إلَى الْحِمَى مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَحْمُوا شَيْئًا لِأَنْفُسِهِمْ دُونَ غَيْرِهِمْ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه اسْتَعْمَلَ مَوْلًى لَهُ يُقَالُ لَهُ هُنَيٌّ عَلَى الْحِمَى.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَقَوْلُ عُمَرَ إنَّهُمْ لَيَرَوْنَ أَنِّي قَدْ ظَلَمْتُهُمْ يَقُولُ يَذْهَبُ رَأْيُهُمْ أَنِّي حَمَيْت بِلاَدًا غَيْرَ مَعْمُورَةٍ لِنَعَمِ الصَّدَقَةِ وَلِنَعَمِ الْفَيْءِ وَأَمَرْت بِإِدْخَالِ أَهْلِ الْحَاجَةِ الْحِمَى دُونَ أَهْلِ الْقُوَّةِ عَلَى الْمَرْعَى فِي غَيْرِ الْحِمَى إلَى أَنِّي قَدْ ظَلَمْتُهُمْ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَمْ يَظْلِمْهُمْ عُمَرُ رضي الله عنه وَإِنْ رَأَوْا ذَلِكَ، بَلْ حَمَى عَلَى مَعْنَى مَا حَمَى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَهْلِ الْحَاجَةِ دُونَ أَهْلِ الْغِنَى وَجَعَلَ الْحِمَى حَوْزًا لَهُمْ خَالِصًا كَمَا يَكُونُ مَا عَمَرَ الرَّجُلُ لَهُ خَالِصًا دُونَ غَيْرِهِ، وَقَدْ كَانَ مُبَاحًا قَبْلَ عِمَارَتِهِ فَكَذَلِكَ الْحِمَى لِمَنْ حَمَى لَهُ مِنْ أَهْلِ الْحَاجَةِ، وَقَدْ كَانَ مُبَاحًا قَبْلَ يُحْمَى. قَالَ: وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي قَوْلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه لَوْلاَ الْمَالُ الَّذِي أَحْمِلُ عَلَيْهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا حَمَيْت عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ بِلاَدِهِمْ شِبْرًا أَنَّهُ لَمْ يَحْمِ إلَّا لِمَا يَحْمِلُ عَلَيْهِ لِمَنْ يَحْتَاجُ إلَى الْحِمَى مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَحْمُوا وَرَأَى إدْخَالَ الضَّعِيفِ حَقًّا لَهُ دُونَ الْقَوِيِّ فَكُلُّ مَا لَمْ يُعْمَرْ مِنْ الْأَرْضِ فَلاَ يُحَالُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَنْزِلُوا وَيَرْعَوْا فِيهِ حَيْثُ شَاءُوا إلَّا مَا حَمَى الْوَالِي لِمَصْلَحَةِ عَوَامِّ الْمُسْلِمِينَ فَجَعَلَهُ لِمَا يَحْمِلُ عَلَيْهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مِنْ نَعَمِ الْجِزْيَةِ وَمَا يَفْضُلُ مِنْ نَعَمِ الصَّدَقَةِ فَيَعُدُّهُ لِمَنْ يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ أَهْلِهَا، وَمَا يَصِيرُ إلَيْهِ مِنْ ضَوَالِّ الْمُسْلِمِينَ وَمَاشِيَةُ أَهْلِ الضَّعْفِ دُونَ أَهْلِ الْقُوَّةِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَكُلُّ هَذَا عَامُّ الْمَنْفَعَةِ بِوُجُوهٍ؛ لِأَنَّ مَنْ حَمَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَذَلِكَ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَمَنْ أَرْصَدَ لَهُ أَنْ يُعْطِيَ مِنْ مَاشِيَةِ الصَّدَقَةِ فَذَلِكَ لِجَمَاعَةِ ضُعَفَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَذَلِكَ مَنْ ضَعُفَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَرَعَيْت لَهُ مَاشِيَتَهُ فَذَلِكَ لِجَمَاعَةِ ضُعَفَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَأَمَرَ عُمَرُ رضي الله عنه أَنْ لاَ يُدْخَلَ نَعَمُ ابْنِ عَفَّانَ وَابْنِ عَوْفٍ لِقُوَّتِهِمَا فِي أَمْوَالِهِمَا وَإِنَّهُمَا لَوْ هَلَكَتْ مَاشِيَتُهُمَا لَمْ يَكُونَا مِمَّنْ يَصِيرُ كَلًّا عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَكَذَلِكَ يَصْنَعُ بِمَنْ لَهُ غِنًى غَيْرُ الْمَاشِيَةِ.
أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ أَخْبَرَنَا الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى قَالَ جَمِيعُ مَا يُعْطِي النَّاسُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ ثَلاَثَةُ وُجُوهٍ. ثُمَّ يَتَشَعَّبُ كُلُّ وَجْهٍ مِنْهَا، وَالْعَطَايَا مِنْهَا فِي الْحَيَاةِ وَجْهَانِ، وَبَعْدَ الْوَفَاةِ وَاحِدٌ: فَالْوَجْهَانِ مِنْ الْعَطَايَا فِي الْحَيَاةِ مُفْتَرِقَا الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ، فَأَحَدُهُمَا يَتِمُّ بِكَلاَمِ الْمُعْطِي وَالْآخَرُ يَتِمُّ بِأَمْرَيْنِ، بِكَلاَمِ الْمُعْطِي وَقَبْضِ الْمُعْطَى أَوْ قَبْضِ مَنْ يَكُونُ قَبْضُهُ لَهُ قَبْضًا.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَالْعَطَايَا الَّتِي تَتِمُّ بِكَلاَمِ الْمُعْطِي دُونَ أَنْ يَقْبِضَهَا الْمُعْطَى مَا كَانَ إذَا خَرَجَ بِهِ الْكَلاَمُ مِنْ الْمُعْطَى لَهُ جَائِرًا عَلَى مَا أَعْطَى لَمْ يَكُنْ لِلْمُعْطِي أَنْ يَمْلِكَ مَا خَرَجَ مِنْهُ فِيهِ الْكَلاَمُ بِوَجْهٍ أَبَدًا وَهَذِهِ الْعَطِيَّةُ الصَّدَقَاتُ الْمُحَرَّمَاتُ الْمَوْقُوفَاتُ عَلَى قَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ، أَوْ قَوْمٍ مَوْصُوفِينَ وَمَا كَانَ فِي مَعْنَى هَذِهِ الْعَطَايَا مِمَّا سُبِّلَ مَحْبُوسًا عَلَى قَوْمٍ مَوْصُوفِينَ، وَإِنْ لَمْ يُسَمَّ ذَلِكَ مُحَرَّمًا فَهُوَ مُحَرَّمٌ بِاسْمِ الْحَبْسِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَإِذَا أَشْهَدَ الرَّجُلُ عَلَى نَفْسِهِ بِعَطِيَّةٍ مِنْ هَذِهِ فَهِيَ جَائِزَةٌ لِمَنْ أَعْطَاهَا، قَبَضَهَا، أَوْ لَمْ يَقْبِضْهَا، وَمَتَى قَامَ عَلَيْهِ أَخَذَهَا مِنْ يَدَيْ مُعْطِيهَا وَلَيْسَ لِمُعْطِيهَا حَبْسُهَا عَنْهُ عَلَى حَالٍ بَلْ يُجْبَرُ عَلَى دَفْعِهَا إلَيْهِ، وَإِنْ اسْتَهْلَكَ مِنْهَا شَيْئًا بَعْدَ إشْهَادِهِ بِإِعْطَائِهَا ضَمِنَ مَا اسْتَهْلَكَ كَمَا يَضْمَنُهُ أَجْنَبِيٌّ لَوْ اسْتَهْلَكَهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا خَرَجَ مِنْ مِلْكِهِ فَهُوَ وَالْأَجْنَبِيُّ فِيمَا اسْتَهْلَكَ مِنْهُ سَوَاءٌ، وَلَوْ مَاتَ مَنْ جُعِلَتْ هَذِهِ الصَّدَقَةُ عَلَيْهِ قَبْلَ قَبْضِهَا، وَقَدْ أَغَلَّتْ غَلَّةً أَخَذَ وَارِثُهُ حِصَّتَهُ مِنْ غَلَّتِهَا؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ قَدْ كَانَ مَالِكًا لِمَا أَعْطَى، وَإِنْ لَمْ يَقْبِضْهُ كَمَا يَكُونُ لَهُ غَلَّةُ أَرْضٍ لَوْ غَصَبَهَا، أَوْ كَانَتْ وَدِيعَةً فِي يَدَيْ غَيْرِهِ فَجَحَدَهَا ثُمَّ أَقَرَّ بِهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَبَضَ ذَلِكَ، وَلَوْ مَاتَ بِهَا قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهَا مَنْ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ لِوَارِثِهِ مِنْهَا شَيْءٌ وَكَانَتْ لِمَنْ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَيْهِ، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ تَرْجِعُ مَوْرُوثَةً وَالْمَوْرُوثُ إنَّمَا يُوَرَّثُ مَا كَانَ مِلْكًا لِلْمَيِّتِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُتَصَدِّقِ الْمَيِّتِ أَنْ يَمْلِكَ شَيْئًا فِي حَيَاتِهِ، وَلاَ بِحَالٍ أَبَدًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَمْلِكَ الْوَارِثُ عَنْهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَمْلِكَ فِي حَيَاتِهِ بِحَالٍ أَبَدًا. قَالَ: وَفِي هَذَا الْمَعْنَى الْعِتْقُ، إذَا تَكَلَّمَ الرَّجُلُ يُعْتِقُ مَنْ يَجُوزُ لَهُ عِتْقُهُ تَمَّ الْعِتْقُ، وَلَمْ يَحْتَجْ إلَى أَنْ يَقْبَلَهُ الْمُعْتَقُ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُعْتِقِ مِلْكُهُ، وَلاَ لِغَيْرِهِ مِلْكُ رِقٍّ يَكُونُ لَهُ فِيهِ بَيْعٌ، وَلاَ هِبَةٌ، وَلاَ مِيرَاثٌ بِحَالٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي مِنْ الْعَطَايَا فِي الْحَيَاةِ مَا أَخْرَجَهُ الْمَالِكُ مِنْ يَدِهِ مِلْكًا تَامًّا لِغَيْرِهِ بِهِبَتِهِ، أَوْ بِبَيْعِهِ وَيُوَرَّثُ عَنْهُ، وَهَذَا مِنْ الْعَطَايَا يَحِلُّ لِمَنْ أَخْرَجَهُ مِنْ يَدَيْهِ أَنْ يَمْلِكَهُ بِوُجُوهٍ، وَذَلِكَ أَنْ يَرِثَ مَنْ أَعْطَاهُ، أَوْ يَرُدَّ عَلَيْهِ الْمُعْطَى الْعَطِيَّةَ، أَوْ يَهَبَهَا لَهُ، أَوْ يَبِيعَهُ إيَّاهَا، وَهَذَا مِثْلُ النِّحَلِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ غَيْرِ الْمُحَرَّمَةِ، وَلاَ الَّتِي فِي مَعْنَاهَا بِالتَّسْبِيلِ وَغَيْرِهِ وَهَذِهِ الْعَطِيَّةُ تَتِمُّ بِأَمْرَيْنِ: إشْهَادُ مَنْ أَعْطَاهَا وَقَبَضَهَا بِأَمْرِ مَنْ أَعْطَاهَا وَالْمُحَرَّمَةُ وَالْمُسَبَّلَةُ تَجُوزُ بِلاَ قَبْضٍ. قِيلَ: تَقْلِيدُ الْهَدْيِ وَإِشْعَارُهُ وَسِيَاقُهُ وَإِيجَابُهُ بِغَيْرِ تَقْلِيدٍ يَكُونُ عَلَى مَالِكِهِ بَلاَغُهُ الْبَيْتَ وَنَحْوِهِ وَالصَّدَقَةُ فِيهِ بِمَا صَنَعَ مِنْهُ، وَلَمْ يَقْبِضْهُ مَنْ جَعَلَ لَهُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ مَا تَصَدَّقَ بِهِ بِغَيْرِ حَبْسٍ مِمَّا لاَ يَتِمُّ إلَّا بِقَبْضِ مَنْ أُعْطِيهَا لِنَفْسِهِ، أَوْ قَبْضِ غَيْرِهِ لَهُ مِمَّنْ قَبَضَهُ لَهُ قَبْضُ، وَهَذَا الْوَجْهِ مِنْ الْعَطَايَا لِمُعْطِيهِ أَنْ يَمْنَعَهُ مَنْ أَعْطَاهُ إيَّاهُ مَا لَمْ يَقْبِضْهُ، وَمَتَى رَجَعَ فِي عَطِيَّتِهِ قَبْلَ قَبْضِ مَنْ أُعْطِيهِ فَذَلِكَ لَهُ، وَإِنْ مَاتَ الْمُعْطَى قَبْلَ يَقْبِضُ الْعَطِيَّةَ فَالْمُعْطِي بِالْخِيَارِ إنْ أَحَبَّ أَنْ يُعْطِيَهَا وَرَثَتَهُ عَطَاءً مُبْتَدَأً لاَ عَطَاءً مَوْرُوثًا عَنْ الْمُعْطَى؛ لِأَنَّ الْمُعْطَى لَمْ يَمْلِكْهَا فَعَلَ وَذَلِكَ أَحَبُّ إلَيَّ لَهُ، وَإِنْ شَاءَ حَبَسَهَا عَنْهُمْ، وَإِنْ مَاتَ الْمُعْطِي قَبْلَ يَقْبِضُهَا الْمُعْطَى فَهِيَ لِوَرَثَةِ الْمُعْطِي؛ لِأَنَّ مِلْكَهَا لَمْ يَتِمَّ لِلْمُعْطَى. قَالَ: وَالْعَطِيَّةُ بَعْدَ الْمَوْتِ هِيَ الْوَصِيَّةُ لِمَنْ أَوْصَى لَهُ فِي حَيَاتِهِ فَقَالَ: إذَا مِتُّ فَلِفُلاَنٍ كَذَا فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْوَصِيَّةِ مَا لَمْ يَمُتْ، فَإِذَا مَاتَ مَلَكَ أَهْلُ الْوَصَايَا وَصَايَاهُمْ بِلاَ قَبْضٍ كَانَ مِنْ الْمُعْطَى، وَلاَ بَعْدَهُ وَلَيْسَ لِلْوَرَثَةِ أَنْ يَمْنَعُوهُ الْمُوصَى لَهُمْ، وَهُوَ لَهُمْ مِلْكًا تَامًّا قَالَ: وَأَصْلُ مَا ذَهَبْنَا إلَيْهِ أَنَّ هَذَا مَوْجُودٌ فِي السُّنَّةِ وَالْآثَارِ، أَوْ فِيهِمَا فَفَرَّقْنَا بَيْنَهُ اتِّبَاعًا وَقِيَاسًا.
قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: فَخَالَفْنَا بَعْضَ النَّاسِ فِي الصَّدَقَاتِ الْمُحَرَّمَاتِ وَقَالَ مَنْ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ مُحَرَّمَةٍ وَسَبَّلَهَا فَالصَّدَقَةُ بَاطِلٌ وَهِيَ مِلْكٌ لِلْمُتَصَدِّقِ فِي حَيَاتِهِ وَلِوَارِثِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ قَبَضَهَا مَنْ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَيْهِ، أَوْ لَمْ يَقْبِضْهَا وَقَالَ لِي بَعْضُ مَنْ يَحْفَظُ قَوْلَ قَائِلٍ هَذَا: إنَّا رَدَدْنَا الصَّدَقَاتِ الْمَوْقُوفَاتِ بِأُمُورٍ قُلْت لَهُ وَمَا هِيَ؟ فَقَالَ: قَالَ شُرَيْحٌ جَاءَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِطْلاَقِ الْحَبْسِ فَقُلْت لَهُ وَتَعْرِفُ الْحَبْسَ الَّتِي جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِطْلاَقِهَا؟ قَالَ لاَ أَعْرِفُ حَبْسًا إلَّا الْحَبْسَ بِالتَّحْرِيمِ فَهَلْ تَعْرِفُ شَيْئًا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْحَبْسِ غَيْرَهَا؟
قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَقُلْت لَهُ أَعْرِفُ الْحَبْسَ الَّتِي جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِطْلاَقِهَا وَهِيَ غَيْرُ مَا ذَهَبْت إلَيْهِ وَهِيَ بَيِّنَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ اُذْكُرْهَا قُلْت: قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بِحِيرَةٍ وَلاَ سَائِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ} فَهَذِهِ الْحَبْسُ الَّتِي كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَحْبِسُونَهَا فَأَبْطَلَ اللَّهُ شُرُوطَهُمْ فِيهَا وَأَبْطَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِبْطَالِ اللَّهِ إيَّاهَا وَهِيَ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَقُولُ: إذَا نَتَجَ فَحْلُ إبِلِهِ ثُمَّ أَلْقَحَ فَأُنْتِجَ مِنْهُ هُوَ حَامٍ أَيْ قَدْ حَمَى ظَهْرُهُ فَيَحْرُمُ رُكُوبُهُ وَيُجْعَلُ ذَلِكَ شَبِيهًا بِالْعِتْقِ لَهُ وَيَقُولُ فِي الْبَحِيرَةِ وَالْوَصِيلَةِ عَلَى مَعْنًى يُوَافِقُ بَعْضَ هَذَا وَيَقُولُ لِعَبْدِهِ أَنْتَ حُرٌّ سَائِبَةٌ لاَ يَكُونُ لِي، وَلاَؤُك، وَلاَ عَلَيَّ عَقْلُك قَالَ: فَهَلْ قِيلَ فِي السَّائِبَةِ غَيْرُ هَذَا؟ فَقُلْت نَعَمْ قِيلَ إنَّهُ أَيْضًا فِي الْبَهَائِمِ قَدْ سَيَّبْتُك.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَلَمَّا كَانَ الْعِتْقُ لاَ يَقَعُ عَلَى الْبَهَائِمِ رَدَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِلْكَ الْبَحِيرَةِ وَالْوَصِيلَةِ وَالْحَامِ إلَى مَالِكِهِ وَأَثْبَتَ الْعِتْقَ وَجَعَلَ الْوَلاَءَ لِمَنْ أَعْتَقَ السَّائِبَةَ وَحَكَمَ لَهُ بِمِثْلِ حُكْمِ النَّسَبِ، وَلَمْ يَحْبِسْ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ عَلِمْته دَارًا وَلاَ أَرْضًا تَبَرُّرًا بِحَبْسِهَا، وَإِنَّمَا حَبَسَ أَهْلُ الْإِسْلاَمِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَالصَّدَقَاتُ يَلْزَمُهَا اسْمُ الْحَبْسِ وَلَيْسَ لَك أَنْ تُخْرِجَ مِمَّا لَزِمَهُ اسْمُ الْحَبْسِ شَيْئًا إلَّا بِخَبَرٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْت وَقُلْت أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ حَفْصٍ الْعُمَرِيِّ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ مَلَكَ مِائَةَ سَهْمٍ مِنْ خَيْبَرَ اشْتَرَاهَا فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي أَصَبْت مَالاً لَمْ أُصِبْ مِثْلَهُ قَطُّ، وَقَدْ أَرَدْت أَنْ أَتَقَرَّبَ بِهِ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَقَالَ: «حَبِّسْ الْأَصْلَ، وَسَبِّلْ الثَّمَرَةَ».
قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَأَخْبَرَنِي عُمَرُ بْنُ حَبِيبٍ الْقَاضِي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْنٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ بِأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أَصَبْت مَالاً مِنْ خَيْبَرَ لَمْ أُصِبْ مَالاً قَطُّ أَعْجَبَ إلَيَّ أَوْ أَعْظَمَ عِنْدِي مِنْهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنْ شِئْت حَبَسْت أَصْلَهُ وَسَبَّلْت ثَمَرَهُ» فَتَصَدَّقَ بِهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه ثُمَّ حَكَى صَدَقَتَهُ بِهِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَقَالَ: إنْ كَانَ هَذَا ثَابِتٌ فَلاَ يَجُوزُ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْحَبْسُ الَّتِي أَطْلَقَ غَيْرَ الْحَبْسِ الَّتِي أَمَرَ بِحَبْسِهَا قُلْت هَذَا عِنْدَنَا، وَعِنْدَك ثَابِتٌ، وَعِنْدَنَا أَكْثَرُ مِنْ هَذَا، وَإِنْ كَانَتْ الْحُجَّةُ تَقُومُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَك بِأَقَلّ مِنْهُ قَالَ فَكَيْفَ أَجَزْت الصَّدَقَاتِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَإِنْ لَمْ يَقْبِضْهَا مَنْ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَيْهِ؟ فَقُلْت اتِّبَاعًا وَقِيَاسًا فَقَالَ: وَمَا الِاتِّبَاعُ؟ فَقُلْت لَهُ لَمَّا سَأَلَ عُمَرُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ مَالِهِ فَأَمَرَهُ أَنْ يَحْبِسَ أَصْلَ مَالِهِ وَيُسَبِّلَ ثَمَرَهُ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى إجَازَةِ الْحَبْسِ وَعَلَى أَنَّ عُمَرَ كَانَ يَلِي حَبْسَ صَدَقَتِهِ وَيُسَبَّلُ ثَمَرَهَا بِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ يَلِيهَا غَيْرُهُ، قَالَ: فَقَالَ: أَفَيَحْتَمِلُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَبِّسْ أَصْلَهَا وَسَبِّلْ ثَمَرَهَا اشْتَرَطَ ذَلِكَ؟ قُلْت نَعَمْ وَالْمَعْنَى الْأَوَّلُ أَظْهَرُهُمَا وَعَلَيْهِ مِنْ الْخَبَرِ دَلاَلَةٌ أُخْرَى قَالَ وَمَا هِيَ؟ قُلْت إذَا كَانَ عُمَرُ لاَ يَعْرِفُ وَجْهَ الْحَبْسِ أَفَيُعَلِّمُهُ حَبْسَ الْأَصْلِ وَسَبْلَ الثَّمَرِ وَيَدْعُ أَنْ يُعَلِّمَهُ أَنْ يُخْرِجَهَا مِنْ يَدَيْهِ إلَى مَنْ يَلِيهَا عَلَيْهِ وَلِمَنْ حَبَسَهَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ لاَ تَتِمُّ إلَّا بِأَنْ يُخْرِجَهَا الْمُحَبِّسُ مِنْ يَدَيْهِ إلَى مِنْ يَلِيهَا دُونَهُ، كَانَ هَذَا أَوْلَى أَنْ يُعَلِّمَهُ؛ لِأَنَّ الْحَبْسَ لاَ يَتِمُّ إلَّا بِهِ، وَلَكِنَّهُ عَلَّمَهُ مَا يَتِمُّ لَهُ، وَلَمْ يَكُنْ فِي إخْرَاجِهَا مِنْ يَدَيْهِ شَيْءٌ يَزِيدُ فِيهَا، وَلاَ فِي إمْسَاكِهَا يَلِيهَا هُوَ شَيْءٌ يُنْقِصُ صَدَقَتُهُ، وَلَمْ يَزَلْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ الْمُتَصَدِّقُ بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلِي فِيمَا بَلَغَنَا صَدَقَتَهُ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَلَمْ يَزَلْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه يَلِي صَدَقَتَهُ بِيَنْبُعَ حَتَّى لَقِيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَمْ تَزَلْ فَاطِمَةُ عليها السلام تَلِي صَدَقَتَهَا حَتَّى لَقِيَتْ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: أَخْبَرَنَا بِذَلِكَ أَهْلُ الْعِلْمِ مِنْ وَلَدِ فَاطِمَةَ وَعَلِيٍّ وَعُمَرَ وَمَوَالِيهِمْ وَلَقَدْ حَفِظْنَا الصَّدَقَاتِ عَنْ عَدَدٍ كَثِيرٍ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ لَقَدْ حَكَى لِي عَدَدٌ كَثِيرٌ مِنْ أَوْلاَدِهِمْ وَأَهِلِيهِمْ أَنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا يَلُونَ صَدَقَاتِهِمْ حَتَّى مَاتُوا يَنْقُلُ ذَلِكَ الْعَامَّةُ مِنْهُمْ عَنْ الْعَامَّةِ لاَ يَخْتَلِفُونَ فِيهِ، وَإِنَّ أَكْثَرَ مَا عِنْدَنَا بِالْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ مِنْ الصَّدَقَاتِ لَكَمَا وَصَفْت لَمْ يَزَلْ يَتَصَدَّقُ بِهَا الْمُسْلِمُونَ مِنْ السَّلَفِ يَلُونَهَا حَتَّى مَاتُوا وَأَنَّ نَقْلَ الْحَدِيثِ فِيهَا كَالتَّكَلُّفِ، وَإِنْ كُنَّا قَدْ ذَكَرْنَا بَعْضَهُ قَبْلَ هَذَا. فَإِذَا كُنَّا إنَّمَا أَجَزْنَا الصَّدَقَاتِ، وَفِيهَا الْعِلَلُ الَّتِي أَبْطَلَهَا صَاحِبُك بِهَا مِنْ قَوْلِ شُرَيْحٍ جَاءَ مُحَمَّدٌ بِإِطْلاَقِ الْحَبْسِ بِأَنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَالٌ مَمْلُوكًا ثُمَّ يُخْرِجُهُ مَالِكُهُ مِنْ مِلْكِهِ إلَى غَيْرِ مَالِكٍ لَهُ كُلَّهُ إلَّا بِالسُّنَّةِ وَاتِّبَاعِ الْآثَارِ فَكَيْفَ اتَّبَعْنَاهُمْ فِي إجَازَتِهَا وَإِجَازَتُهَا أَكْثَرُ وَنَتْرُكُ اتِّبَاعَهُمْ فِي أَنْ يَحُوزَهَا كَمَا حَازُوهَا، وَلَمْ يُوَلُّوهَا أَحَدًا؟ فَقَالَ: فَمَا الْحِصَّةُ فِيهِ مِنْ الْقِيَاسِ؟ قُلْت لَهُ لَمَّا أَجَازَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُحْبَسَ الْأَصْلُ أَصْلُ الْمَالِ وَتُسَبَّلَ الثَّمَرَةُ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ أَجَازَ أَنْ يُخْرِجَهُ مَالِكُ الْمَالِ مِنْ مِلْكِهِ بِالشَّرْطِ إلَى أَنْ يَصِيرَ الْمَالُ مَحْبُوسًا لاَ يَكُنْ لِمَالِكِهِ بَيْعُهُ، وَلاَ أَنْ يَرْجِعَ إلَيْهِ بِحَالٍ كَمَا لاَ يَكُونُ لِمَنْ سَبَّلَ ثَمَرَهُ عَلَيْهِ بَيْعُ الْأَصْلِ، وَلاَ مِيرَاثِهِ فَكَانَ هَذَا مَالاً مُخَالِفًا لِكُلِّ مَالٍ سِوَاهُ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَالٍ سِوَاهُ يَخْرُجُ مِنْ مَالِكِهِ إلَى مَالِكٍ فَالْمَالِكُ يَمْلِكُ بَيْعَهُ وَهِبَتَهُ وَيَجُوزُ لِلْمَالِكِ الَّذِي أَخْرَجَهُ مِنْ مِلْكِهِ أَنْ يَمْلِكَهُ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنْ يَدَيْهِ بِبَيْعٍ وَهِبَةٍ وَمِيرَاثٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ الْمِلْكِ وَيُجَامِعُ الْمَالُ الْمَحْبُوسُ الْمَوْقُوفُ الْعِتْقَ الَّذِي أَخْرَجَهُ مَالِكُهُ مِنْ مَالِهِ بِشَيْءٍ جَعَلَهُ اللَّهُ إلَى غَيْرِ مِلْكِ نَفْسِهِ، وَلَكِنْ مَلَّكَهُ مَنْفَعَةَ نَفْسِهِ بِلاَ مِلْكٍ لِرَقَبَتِهِ كَمَا مَلَّكَ الْمُحْبِسُ مِنْ جَعْلِ مَنْفَعَةِ الْمَالِ لَهُ بِغَيْرِ مِلْكٍ مِنْهُ لِرَقَبَةِ الْمَالِ وَكَانَ بِإِخْرَاجِهِ الْمِلْكَ مِنْ يَدَيْهِ مُحَرِّمًا عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَمْلِكَ الْمَالَ بِوَجْهٍ أَبَدًا كَمَا كَانَ مُحَرِّمًا أَنْ يَمْلِكَ الْعَبْدَ بِشَيْءٍ أَبَدًا فَاجْتَمَعَا فِي مَعْنَيَيْنِ، وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ مُفَارِقَهُ فِي أَنَّهُ لاَ يَمْلِكُ مَنْفَعَةَ نَفْسِهِ غَيْرُ نَفْسِهِ كَمَا يَمْلِكُ مَنْفَعَةَ الْمَالِ مَالِكٌ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَالَ لاَ يَكُونُ مَالِكًا إنَّمَا يَمْلِكُ الْآدَمِيُّونَ، فَلَوْ قَالَ قَائِلٌ لِمَالِهِ أَنْتَ حُرٌّ لَمْ يَكُنْ حُرًّا، وَلَوْ قَالَ أَنْتَ مَوْقُوفٌ لَمْ يَكُنْ مَوْقُوفًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُمَلِّكْ مَنْفَعَتَهُ أَحَدًا، وَهُوَ إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ أَنْتَ حُرٌّ، فَقَدْ مَلَّكَهُ مَنْفَعَةَ نَفْسِهِ فَقَالَ قَدْ قَالَ فِيهَا فُقَهَاءُ الْمَكِّيِّينَ وَحُكَّامُهُمْ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُمْ يَقُولُونَ قَوْلَك، وَأَبُو يُوسُفَ حِينَ أَجَازَ الصَّدَقَاتِ قَالَ قَوْلَك فِي أَنَّهَا تَجُوزُ، وَإِنْ وَلِيَهَا صَاحِبُهَا حَتَّى يَمُوتَ وَاحْتَجَّ فِيهَا بِأَنَّهُ إنَّمَا أَجَازَهَا اتِّبَاعًا وَأَنَّ الْمُتَصَدِّقِينَ بِهَا مِنْ السَّلَفِ وَلَوْهَا حَتَّى مَاتُوا، وَلَكِنَّا قَدْ ذَهَبْنَا فِيهَا وَبَعْضُ الْبَصْرِيِّينَ إلَى أَنَّ الرَّجُلَ إنْ لَمْ يُخْرِجْهَا مِنْ مِلْكِهِ إلَى مَنْ يَلِيهَا دُونَهُ فِي حَيَاتِهِ لِمَنْ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَيْهِ كَانَتْ مُنْتَقَضَةً وَأَنْزَلَهَا مَنْزِلَةَ الْهِبَاتِ، وَتَابَعْنَا بَعْضَ الْمَدَنِيِّينَ فِيهَا وَخَالَفْنَا فِي الْهِبَاتِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَقُلْت لَهُ قَدْ حَفِظْنَا عَنْ سَلَفِنَا مَا وَصَفْت وَمَا أَعْرِفُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ التَّابِعِينَ أَنَّهُ أَبْطَلَ صَدَقَةً بِأَنْ لَمْ يَدْفَعْهَا الْمُتَصَدِّقُ بِهَا إلَى وَالٍ فِي حَيَاتِهِ وَمَا هَذَا إلَّا شَيْءٌ أَحْدَثَهُ مِنْهُمْ مَنْ لاَ يَكُونُ قَوْلُهُ حُجَّةً عَلَى أَحَدٍ وَمَا أَدْرِي لَعَلَّهُ سَمِعَ قَوْلَكُمْ، أَوْ قَوْلَ بَعْضِ الْبَصْرِيِّينَ فِيهِ فَاتَّبَعَهُ فَقَالَ وَأَنَا أَقُومُ بِهَذَا الْقَوْلِ عَلَيْك قُلْت لَهُ هَذَا قَوْلٌ تُخَالِفُهُ فَكَيْفَ تَقُومُ بِهِ؟ قَالَ أَقُومُ بِهِ لِمَنْ قَالَهُ مِنْ أَصْحَابِنَا وَأَصْحَابِك فَأَقُولُ إنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رضي الله عنه نَحَلَ عَائِشَةَ جِدَادَ عِشْرِينَ وَسْقًا فَمَرِضَ قَبْلَ أَنْ تَقْبِضَهُ فَقَالَ لَهَا: لَوْ كُنْت خَزَنْتِيهِ وَقَبَضْتِيهِ كَانَ لَك، وَإِنَّمَا هُوَ الْيَوْمَ مَالُ الْوَارِثِ، وَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ مَا بَالُ رِجَالٍ يَنْحَلُونَ أَبْنَاءَهُمْ نُحْلاً ثُمَّ يُمْسِكُونَهَا فَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمْ قَالَ مَالُ أَبِي نَحَلْنِيهِ، وَإِنْ مَاتَ ابْنُهُ قَالَ مَالِي وَبِيَدِي لاَ نِحْلَةَ إلَّا نِحْلَةٌ يَحُوزُهَا الْوَلَدُ دُونَ الْوَالِدِ حَتَّى يَكُونَ إنْ مَاتَ أَحَقَّ بِهَا وَأَنَّهُ شَكَا إلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رضي الله عنه قَوْلَ عُمَرَ فَرَأَى أَنَّ الْوَالِدَ يَجُوزُ لِوَلَدِهِ مَا دَامُوا صِغَارًا، فَأَقُولُ إنَّ الصَّدَقَاتِ الْمَوْقُوفَاتِ قِيَاسًا عَلَى هَذَا. وَلاَ أَزْعُمُ مَا زَعَمْت مِنْ أَنَّهَا مُفْتَرِقَةٌ فَقُلْت لَهُ أَفَرَأَيْت لَوْ اجْتَمَعَتْ هِيَ وَالصَّدَقَاتُ فِي مَعْنًى وَاخْتَلَفَتَا فِي مَعْنَيَيْنِ، أَوْ أَكْثَرُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَوْلَى بِتَأْوِيلٍ، أَوْ التَّفْرِيقِ؟ قَالَ بَلْ التَّفْرِيقُ فَقُلْت لَهُ أَفَرَأَيْت الْهِبَاتِ كُلَّهَا وَالنُّحْلَ وَالْعَطَايَا سِوَى الْوَقْفِ لَوْ تَمَّتْ لِمَنْ أُعْطِيهَا ثُمَّ رَدَّهَا عَلَى الَّذِي أَعْطَاهَا، أَوْ لَمْ يَقْبَلْهَا مِنْهُ، أَوْ رَجَعَتْ إلَيْهِ بِمِيرَاثٍ، أَوْ شِرَاءٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ الْمِلْكِ أَيَحِلُّ لَهُ أَنْ يَمْلِكَهَا؟ قَالَ نَعَمْ: قُلْت، وَلَوْ تَمَّتْ لِمَنْ أُعْطِيهَا حَلَّ لَهُ بَيْعُهَا وَهِبَتُهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْت: أَفَتَجِدُ الْوَقْفَ إذَا تَمَّ لِمَنْ وَقَفَ لَهُ يَرْجِعُ إلَى مَالِكِهِ أَبَدًا بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ، أَوْ يَمْلِكُهُ مَنْ وَقَفَ عَلَيْهِ مِلْكًا يَكُونُ لَهُ فِيهِ بَيْعُهُ وَهِبَتُهُ وَأَنْ يَكُونَ مَوْرُوثًا عَنْهُ؟ قَالَ: لاَ، قُلْت وَالْوُقُوفُ خَارِجُهُ مِنْ مِلْكِ مَالِكِهَا بِكُلِّ حَالٍ وَمَمْلُوكَةُ الْمَنْفَعَةِ لِمَنْ وَقَفْت عَلَيْهِ غَيْرُ مَمْلُوكَةِ الْأَصْلِ؟ قَالَ نَعَمْ: قُلْت أَفَتَرَى الْعَطَايَا تُشْبِهُ الْوُقُوفَ فِي مَعْنًى وَاحِدٍ مِنْ مَعَانِيهَا؟ قَالَ فِي أَنَّهَا لاَ تَجُوزُ إلَّا مَقْبُوضَةً قُلْت: كَذَلِكَ قُلْت أَنْتَ فَأَرَاك جَعَلْت قَوْلَك أَصْلاً قَالَ: قِسْته عَلَى مَا ذَكَرْت إنْ خَالَفَ بَعْضَ أَحْكَامِهِ قُلْت: فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُقَاسَ الشَّيْءُ بِخِلاَفِهِ وَهِيَ مُخَالِفَةٌ لِمَا ذَكَرْت مِنْ الْعَطَايَا غَيْرِهَا؟ أَوَرَأَيْت لَوْ قَالَ لَك قَائِلٌ: أَرَاك تَسْلُكُ بِالْعَطَايَا كُلِّهَا مَسْلَكًا وَاحِدًا فَأَزْعُمُ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا أَوْجَبَ الْهَدْيَ عَلَى نَفْسِهِ بِكَلاَمٍ، أَوْ سَاقَهُ، أَوْ قَلَّدَهُ أَوْ أَشْعَرَهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ وَيَهَبَهُ وَيَرْجِعَ؛ لِأَنَّهُ لِمَسَاكِينِ الْحَرَمِ، وَلَمْ يَقْبِضُوهُ أَلَهُ ذَلِكَ؟ قَالَ: لاَ. قُلْت وَأَنْتَ تَقُولُ لَوْ دَفَعَ رَجُلٌ إلَى وَالٍ مَالاً يَحْمِلُ بِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ يَتَصَدَّقُ بِهِ مُتَطَوِّعًا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُخْرِجَهُ مِنْ يَدَيْ الْوَالِي بَلْ يَدْفَعُهُ؟ قَالَ نَعَمْ قَالَ مَا الْعَطَايَا بِوَجْهٍ وَاحِدٍ قُلْت فَعَمَدْت إلَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ وَجَاءَتْ الْآثَارُ بِإِجَازَتِهِ مِنْ الصَّدَقَاتِ الْمُحَرَّمَاتِ فَجَعَلْته قِيَاسًا عَلَى مَا يُخَالِفُهُ وَامْتَنَعْت مِنْ أَنْ تَقِيسَ عَلَيْهِ مَا هُوَ أَقْرَبُ مِنْهُ مِمَّا لاَ أَصْلَ فِيهِ تُفَرِّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ. قَالَ: وَقُلْت لَهُ لَوْ قَالَ لَك قَائِلٌ: أَنَا أَزْعُمُ أَنَّ الْوَصِيَّةَ لاَ تَجُوزُ إلَّا مَقْبُوضَةً. قَالَ: وَكَيْفَ تَكُونُ الْوَصِيَّةُ مَقْبُوضَةً؟ قُلْت بِأَنْ يَدْفَعَهَا الْمُوصِي إلَى الْمُوصَى لَهُ وَيَجْعَلَهَا لَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ فَإِنْ مَاتَ جَازَتْ، وَإِنْ لَمْ يَدْفَعْهَا لَمْ تَجُزْ كَمَا أَعْتَقَ رَجُلٌ مَمَالِيكَ لَهُ فَأَنْزَلَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصِيَّةً، وَكَمَا يَهَبُ فِي الْمَرَضِ فَيَكُونُ وَصِيَّةً قَالَ لَيْسَ ذَلِكَ لَهُ. قُلْت: فَإِنْ قَالَ لَك وَلِمَ؟ قَالَ أَقُولُ؛ لِأَنَّ الْوَصَايَا مُخَالِفَةٌ لِلْعَطَايَا فِي الصِّحَّةِ قُلْت: فَأَذْكُرُ مَنْ قَالَ يَجُوزُ بِغَيْرِ مَا وَصَفْنَا مِنْ السَّلَفِ. قَالَ: مَا أَحْفَظُهُ عَنْ السَّلَفِ وَمَا أَعْلَمُ فِيهِ اخْتِلاَفًا قُلْنَا: فَبَانَ لَك أَنَّ الْمُسْلِمِينَ فَرَّقُوا بَيْنَ الْعَطَايَا، قَالَ: مَا وَجَدُوا بُدًّا مِنْ التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا. قُلْت: وَالْوَصَايَا بِالْعَطَايَا أَشْبَهُ مِنْ الْوَقْفِ بِالْعَطَايَا، فَإِنَّ لِلْمُوصِي أَنْ يَرْجِعَ فِي وَصِيَّتِهِ بَعْدَ الْإِشْهَادِ عَلَيْهَا وَيَرْجِعَ فِي مَالِهِ إنْ مَاتَ مَنْ أَوْصَى لَهُ بِهَا، أَوْ رَدَّهَا فَكَيْفَ بَايَنْت بَيْنَ الْعَطَايَا وَالْوَصَايَا سِوَاهَا وَامْتَنَعْت مِنْ الْمُبَايَنَةِ بَيْنَ الْوَقْفِ وَالْعَطَايَا سِوَاهُ وَأَنْتَ تُفَرِّقُ بَيْنَ الْعَطَايَا سِوَاهُ فَرْقًا بَيِّنًا فَنَقُولُ فِي الْعُمْرَى هِيَ لِصَاحِبِهَا لاَ تَرْجِعُ إلَى الَّذِي أَعْطَاهَا، وَلاَ تَقُولُ هَذَا فِي الْعَارِيَّةِ، وَلاَ الْعَطِيَّةُ غَيْرُ الْعُمْرَى، قَالَ بِالسُّنَّةِ. قُلْت: وَإِذَا جَاءَتْ السُّنَّةُ اتَّبَعْتهَا؟ قَالَ فَذَلِكَ يَلْزَمُنِي. قُلْت: فَقَدْ وَصَفْت لَك فِي الْوَقْفِ السُّنَّةَ وَالْخَبَرَ الْعَامَّ عَنْ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ تَتَّبِعْهُ، وَقُلْت لَهُ أَرَأَيْت النِّحَلَ وَالْهِبَةَ وَالْعَطَايَا غَيْرَ الْوَقْفِ أَلِصَاحِبِهَا أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا مَا لَمْ يَقْبِضْهَا مَنْ جَعَلَهَا لَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْت: فَمَنْ تَقَوَّيْت بِهِ فَمَنْ قَالَ قَوْلَك مِنْ أَصْحَابِنَا يَقُولُ لاَ يَرْجِعْ فِيهَا، وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ يَقْبِضُهَا مَنْ أُعْطِيهَا رَجَعَتْ مِيرَاثًا يَكُونُ فِي ذَلِكَ الْوَقْفِ فَيُسَوِّي بَيْنَ قَوْلَيْهِ، قَالَ: فَهَذَا قَوْلٌ لاَ يَسْتَقِيمُ، وَلاَ يَجُوزُ فِيهِ إلَّا وَاحِدٌ مِنْ قَوْلَيْنِ إمَّا أَنْ يَكُونَ كَمَا قُلْت إذَا تَكَلَّمَ بِالْوَقْفِ، أَوْ الْعَطِيَّةِ تَمَّتْ لِمَنْ جَعَلَهَا لَهُ وَجَبَرَ عَلَى إعْطَائِهَا إيَّاهُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لاَ يَتِمُّ إلَّا بِالْقَبْضِ مَعَ الْعَطَايَا فَيَكُونُ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ مَا لَمْ تَتِمَّ بِقَبْضِ مَنْ أُعْطِيهَا، وَلاَ يَجُوزُ أَبَدًا أَنْ يَكُونَ لَهُ حَبْسُهَا إذَا تَكَلَّمَ بِإِعْطَائِهَا، وَلاَ يَكُونُ لِوَارِثِهِ مِلْكُهَا عَنْهُ إذَا لَمْ تَرْجِعْ فِي حَيَاتِهِ إلَى مِلْكِهِ لَمْ تَرْجِعْ فِي وَفَاتِهِ إلَى مِلْكِهِ فَتَكُونُ مَوْرُوثَةً عَنْهُ، وَهَذَا قَوْلٌ مُحَالٌ وَكُلُّ مَا وَهَبْت لَك فَلِي الرُّجُوعُ فِيهِ مَا لَمْ تَقْبِضْهُ، أَوْ يُقْبَضْ لَك، وَهَذَا مِثْلُ أَنْ أَقُولَ: قَدْ بِعْتُك عَبْدِي بِأَلْفٍ فَإِنْ قُلْت قَدْ رَجَعْت قَبْلَ أَنْ تَخْتَارَ أَخْذَهُ كَانَ لِي الرُّجُوعُ وَكُلُّ أَمْرٍ لاَ يَتِمُّ إلَّا بِأَمْرَيْنِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُمْلَكَ بِوَاحِدٍ. فَقُلْت: هَذَا كَمَا قُلْت إنْ شَاءَ اللَّهُ، وَلَكِنْ رَأَيْتُك ذَهَبْت إلَى رَدِّ الصَّدَقَاتِ قَالَ مَا عِنْدِي فِيهَا أَكْثَرُ مِمَّا وَصَفْت فَهَلْ لَك فِيهَا حُجَّةٌ غَيْرُ مَا ذَكَرْت مِمَّا لَزِمَك بِهِ عِنْدَنَا إثْبَاتُ الصَّدَقَاتِ؟ قَالَ مَا عِنْدِي فِيهَا أَكْثَرُ مِمَّا وَصَفْت.
قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: قُلْتُ فَفِيمَا وَصَفْتَ أَنَّ صَدَقَاتِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ بِالْمَدِينَةِ مَعْرُوفَةٌ قَائِمَةٌ، وَقَدْ وَرِثَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ النِّسَاءُ الْغَرَائِبُ وَالْأَوْلاَدُ ذَوُو الدِّينِ وَالْإِهْلاَكِ لِأَمْوَالِهِمْ وَالْحَاجَةُ إلَى بَيْعِهِ فَمَنَعَهُمْ الْحُكَّامُ فِي كُلِّ دَهْرٍ إلَى الْيَوْمِ فَكَيْفَ أَنْكَرْت إجَازَتَهَا مَعَ عُمُومِ الْعِلْمِ؟ وَأَنْتَ تَقُول لَوْ أَخْرَجَ رَجُلٌ بَيْتًا مِنْ دَارِهِ فَبَنَاهُ مَسْجِدًا وَأَذَّنَ فِيهِ لِمَنْ صَلَّى، وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِوَقْفِهِ كَانَ وَقْفًا لِلْمُصَلِّينَ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَعُودَ فِي مِلْكِهِ إذَا أَذَّنَ لَلْمُصَلِّينَ فِيهِ، وَفِي قَوْلِك هَذَا أَنَّهُ لَمْ يُخْرِجْهُ مِنْ مِلْكِهِ، وَلَوْ كَانَ إذْنُهُ فِي الصَّلاَةِ إخْرَاجَهُ مِنْ مِلْكِهِ كَانَ إخْرَاجُهُ إلَى غَيْرِ مَالِكٍ بِعَيْنِهِ فَكَانَ مِثْلَ الْحَبْسِ الَّذِي يَلْزَمُك إطْلاَقُهَا لِحَدِيثِ شُرَيْحٍ فَعَمَدْت إلَى مَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ مِنْ الْوَقْفِ فِي الْأَمْوَالِ وَالدُّورِ وَمَا أَخْرَجَهُ مَالِكُهُ مِنْ مِلْكِ نَفْسِهِ فَأَبْطَلْته بِعِلَّةٍ وَأَجَزْت الْمَسْجِدَ بِلاَ خَبَرٍ مِنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ جَاوَزْت الْقَصْدَ فِيهِ فَأَخْرَجْته مِنْ مِلْكِ صَاحِبِهِ، وَلَمْ يُخْرِجْهُ صَاحِبٌ مِنْ مِلْكِهِ إنَّمَا يُخْرِجُهُ بِالْكَلاَمِ وَأَنْتَ تَعِيبُ عَلَى الْمَدَنِيِّينَ أَنْ يَقْضُوا بِحِيَازَةِ عَشَرَةٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً. إذَا حَازَ الرَّجُلُ الدَّارَ وَالْمَحُوزُ عَلَيْهِ حَاضِرٌ يَرَاهُ يَبْنِيهَا وَيَهْدِمُهَا، وَهُوَ يَبِيعُ الْمَنَازِلَ لاَ يُكَلِّمُهُ فِيهَا. وَقُلْت الصَّمْتُ وَالْحَوْزُ لاَ يُبْطِلُ الْحَقَّ إنَّمَا يُبْطِلُهُ الْقَوْلُ وَتَجْعَلُ إذْنَ صَاحِبِ الْمَسْجِدِ، وَهُوَ لَمْ يَنْطِقْ بِوَقْفِهِ وَقْفًا فَتَزْكَنُ عَلَيْهِ وَتَعِيبُ مَا هُوَ أَقْوَى فِي الْحُجَّةِ مِنْ قَوْلِ الْمَدَنِيِّينَ فِي الْحِيَازَةِ مِنْ قَوْلِك فِي الْمَسْجِدِ وَتَقُولُ هَذَا وَهُوَ إزْكَانٌ، وَقُلْت لَهُ: أَرَأَيْت لَوْ أَذِنَ فِي دَارِهِ لِلْحَاجِّ أَنْ يَنْزِلُوهَا سَنَةً، أَوْ سَنَتَيْنِ أَتَكُونُ صَدَقَةً عَلَيْهِمْ؟ قَالَ لاَ وَلَهُ مَنْعُهُمْ مَتَى شَاءَ مِنْ النُّزُولِ فِيهَا، قُلْت: فَكَيْفَ لَمْ تَقُلْ هَذَا فِي الْمَسْجِدِ يُخْرِجُهُ مِنْ الدَّارِ، وَلاَ يَتَكَلَّمُ بِوَقْفِهِ. فَقَالَ: إنَّ صَاحِبَيْنَا قَدْ عَابَا قَوْلَ صَاحِبِهِمْ وَصَارَا إلَى قَوْلِكُمْ فِي إجَازَةِ الصَّدَقَاتِ، فَقُلْت لَهُ مَا زَادَ قَوْلُنَا قُوَّةً بِنُزُوعِهِمَا إلَيْهِ، وَلاَ ضَعْفًا بِفِرَاقِهِمَا حِينَ فَارَقَاهُ وَلَهُمَا بِالرُّجُوعِ إلَيْهِ أَسْعَدُ، وَمَا عَلِمْتُهُمَا أَفَادَا حِينَ رَجَعَا إلَيْهِ عِلْمًا كَانَا يَجْهَلاَنِهِ، قَالَ: وَلَكِنْ قَدْ يَصِحُّ عِنْدَهُمَا الشَّيْءُ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَصِحَّ، فَقُلْت: اللَّهُ أَعْلَمُ كَيْفَ كَانَ رُجُوعُهُمَا وَمَقَامُهُمَا وَالرُّجُوعُ بِكُلِّ حَالٍ خَيْرٌ لَهُمَا إنْ شَاءَ اللَّهُ وَقُلْت لَهُ أَيَجُوزُ لِعَالِمٍ أَنْ يَأْتِيَهُ الْخَبَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَمْرٍ مَنْصُوصٍ فَيَقُولُ بِهِ، وَإِنْ عَارَضَهُ مُعَارِضٌ بِخَبَرٍ غَيْرِ مَنْصُوصٍ فَيَقُولُ بِهِ ثُمَّ يَأْتِي مِثْلُهُ فَلاَ يَقْبَلُهُ وَيَصْرِفُ أَصْلاً إلَى أَصْلٍ؟ قَالَ: لاَ، قُلْت: فَقَدْ فَعَلْت وَصَرَفْت الصَّدَقَاتِ إلَى النِّحَلِ وَهُمَا مُفْتَرِقَانِ عِنْدَك. وَقُلْت لَهُ: أَيَجُوزُ أَنْ يَأْتِيَك الْحَدِيثُ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّدَقَاتِ بِأَمْرٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ تَصَدَّقُوا بِهَا وَوَلَوْهَا وَهُمْ لاَ يَفْعَلُونَ إلَّا الْجَائِزَ عِنْدَهُمْ، ثُمَّ يَقُولُونَ فِي النِّحَلِ عِنْدَهُمْ: إنَّمَا تَكُونُ بِأَنْ تَكُونَ مَقْبُوضَاتٍ، فَتَقُولُ: أَجَعَلُوا الصَّدَقَاتِ مِثْلَهُ؟ قَالَ: لاَ، قُلْت: فَقَدْ فَعَلْت قَالَ: فَلَوْ كَانَ هَذَا مَأْثُورًا عِنْدَهُمْ عَرَفَهُ الْحِجَازِيُّونَ، فَقُلْت قَدْ ذَكَرْت لَك بَعْضَ مَا حَضَرَنِي مِنْ الْأَخْبَارِ عَلَى الدَّلاَلَةِ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ قَوْلُ الْمَكِّيِّينَ، وَلاَ أَعْلَمُ مِنْ مُتَقَدِّمِي الْمَدَنِيِّينَ أَحَدًا قَالَ بِخِلاَفِهِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَوَصَفْت لَك أَنَّ أَهْلَ هَذِهِ الصَّدَقَاتِ مِنْ آلِ عَلِيٍّ وَغَيْرِهِمْ قَدْ ذَكَرُوا مَا وَصَفْت مِنْ أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه وَمَنْ تَصَدَّقَ لَمْ يَزَلْ يَلِي صَدَقَتَهُ وَصَدَقَاتُهُمْ فِيهِ جَارِيَةٌ ثُمَّ ثَبَتَتْ قَائِمَةٌ مَشْهُورَةُ الْقِسْمِ وَالْمَوْضِعِ إلَى الْيَوْمِ، وَهَذَا أَقْوَى مِنْ خَبَرِ الْخَاصَّةِ، فَقَالَ فَمَا تَقُولُ فِي الرَّجُلِ يَتَصَدَّقُ عَلَى ابْنِهِ، أَوْ ذِي رَحِمِهِ، أَوْ أَجْنَبِيٍّ بِصَدَقَةٍ غَيْرِ مُحَرَّمَةٍ، وَلاَ فِي سَبِيلِ الْمُحَرَّمَةِ بِالتَّسْبِيلِ أَيَكُونُ لَهُ مَا لَمْ يَقْبِضْهَا الْمُتَصَدِّقُ عَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا؟ قُلْت: نَعَمْ، قَالَ وَسَبِيلُهَا سَبِيلُ الْهِبَاتِ وَالنِّحَلِ؟ قُلْت: نَعَمْ. قَالَ فَأَيْنَ هَذَا لِي؟ قُلْت مَعْنَى تَصَدَّقْت عَلَيْك مُتَطَوِّعًا مَعْنَى وَهَبْت لَك وَنَحَلْتُك؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا هُوَ شَيْءٌ مِنْ مَالِي لَمْ يَلْزَمْنِي أَنْ أُعْطِيَكَهُ، وَلاَ غَيْرَك أَعْطَيْتُك مُتَطَوِّعًا، وَهُوَ يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ صَدَقَةٍ وَنِحَلٍ وَهِبَةٍ وَصِلَةٍ وَإِمْتَاعٍ وَمَعْرُوفٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَسْمَاءِ الْعَطَايَا وَلَيْسَ يَحْرُمُ عَلَيَّ لَوْ أَعْطَيْتُكَهُ فَرَدَدْته عَلَيَّ أَنْ أَمْلِكَهُ، وَلَوْ مِتُّ أَنْ أَرِثَهُ كَمَا يَحْرُمُ عَلَيَّ لَوْ تَصَدَّقْت عَلَيْك بِصَدَقَةٍ مُحَرَّمَةٍ أَنْ أَمْلِكَهَا عَنْك بِمِيرَاثٍ، أَوْ غَيْرِهِ، وَقَدْ لَزِمَهَا اسْمُ صَدَقَةٍ بِوَجْهٍ أَبَدًا؟ قُلْت لَهُ نَعَمْ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ الْأَنْصَارِيَّ ذَكَرَ الْحَدِيثَ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَأَخْبَرَنَا الثِّقَةُ، أَوْ سَمِعْت مَرْوَانَ بْنَ مُعَاوِيَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَطَاءٍ الْمَدِينِيِّ عَنْ ابْنِ بُرَيْدَةَ الْأَسْلَمِيِّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ إنِّي تَصَدَّقْت عَلَى أُمِّي بِعَبْدٍ وَإِنَّهَا مَاتَتْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَدْ وَجَبَتْ صَدَقَتُك، وَهُوَ لَك بِمِيرَاثِك» قَالَ فَلِمَ جَعَلْت مَا تَصَدَّقَ بِهِ غَيْرَ وَاجِبٍ عَلَيْهِ عَلَى أَحَدٍ بِعَيْنِهِ فِي مَعْنَى الْهِبَاتِ تَحِلُّ لِمَنْ لاَ تَحِلُّ لَهُ الصَّدَقَةُ الْوَاجِبَةُ فَهَلْ مِنْ دَلِيلٍ عَلَى مَا وَصَفْت؟ قُلْت: نَعَمْ. أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ شَافِعٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَسَنِ بْنِ حُسَيْنٍ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ وَأَحْسَبُهُ قَالَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَصَدَّقَتْ بِمَالِهَا عَلَى بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ وَأَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه تَصَدَّقَ عَلَيْهِمْ وَأَدْخَلَ مَعَهُمْ غَيْرَهُمْ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَأَخْرَجَ إلَى وَالِي الْمَدِينَةِ صَدَقَةَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه وَأَخْبَرَنِي أَنَّهُ أَخَذَهَا مِنْ آلِ أَبِي رَافِعٍ وَأَنَّهَا كَانَتْ عِنْدَهُمْ فَأَمَرَ بِهَا فَقُرِئَتْ عَلَيَّ، فَإِذَا فِيهَا تَصَدَّقَ بِهَا عَلِيٌّ رضي الله عنه عَلَى بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ وَسَمَّى مَعَهُمْ غَيْرَهُمْ، قَالَ وَبَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ تَحْرُمُ عَلَيْهِمْ الصَّدَقَةُ الْمَفْرُوضَةُ، وَلَمْ يُسَمِّ عَلِيٌّ، وَلاَ فَاطِمَةُ مِنْهُمْ غَنِيًّا، وَلاَ فَقِيرًا، وَفِيهِمْ غَنِيٌّ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: أَخْبَرَنَا إبْرَاهِيمُ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ يَشْرَبُ مِنْ سِقَايَاتٍ كَانَ يَضَعُهَا النَّاسُ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ فَقُلْت أَوْ قِيلَ لَهُ؟ فَقَالَ: إنَّمَا حُرِّمَتْ عَلَيْنَا الصَّدَقَةُ الْمَفْرُوضَةُ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَقَالَ أَفَتُجِيزُ أَنْ يَتَصَدَّقَ الرَّجُلُ عَلَى الْهَاشِمِيِّ وَالْمُطَّلِبِيُّ وَالْغَنِيِّ مِنْهُمْ وَمِنْ غَيْرِهِمْ مُتَطَوِّعًا؟ فَقُلْت: نَعَمْ اسْتِدْلاَلاً بِمَا وَصَفْت وَأَنَّ الصَّدَقَةَ تَطَوُّعًا إنَّمَا هِيَ عَطَاءٌ، وَلاَ بَأْسَ أَنْ يُعْطَى الْغَنِيُّ تَطَوُّعًا قَالَ: فَهَلْ تَجِدُ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى الْغَنِيُّ؟ فَقُلْت: مَا لِلْمَسْأَلَةِ مِنْ هَذَا مَوْضِعٌ، وَلاَ بَأْسَ أَنْ يُعْطَى الْغَنِيُّ قَالَ: فَاذْكُرْ فِيهِ حُجَّةً قُلْت أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ حُوَيْطِبِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ: اسْتَعْمَلَنِي، قَالَ: فَهَلْ تَحْرُمُ الصَّدَقَةُ تَطَوُّعًا عَلَى أَحَدٍ؟ فَقُلْت: لاَ إلَّا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لاَ يَأْخُذُهَا وَيَأْخُذُ الْهَدِيَّةَ، وَقَدْ يَجُوزُ تَرْكُهُ إيَّاهَا عَلَى مَا رَفَعَهُ اللَّهُ بِهِ وَأَبَانَهُ مِنْ خَلْقِهِ تَحْرِيمًا وَيَجُوزُ لِغَيْرِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الصَّدَقَاتِ مِنْ الْعَطَايَا هِبَةٌ لاَ يُرَادُ ثَوَابُهَا وَمَعْنَى الْهَدِيَّةِ يُرَادُ ثَوَابُهَا قَالَ: أَفَتَجِدُ دَلِيلاً عَلَى قَبُولِهِ الْهَدِيَّةِ؟ فَقُلْت: نَعَمْ، أَخْبَرَنِيهِ مَالِكٌ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ فَقُرِّبَ إلَيْهِ خُبْزٌ وَأُدْمٌ مِنْ أُدْمِ الْبَيْتِ فَقَالَ: «أَلَمْ أَرَ بُرْمَةَ لَحْمٍ؟» فَقَالُوا: ذَلِكَ شَيْءٌ تُصُدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ. فَقَالَ: «هُوَ لَهَا صَدَقَةٌ، وَهُوَ لَنَا هَدِيَّةٌ» فَقَالَ: مَا الَّذِي يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صَدَقَةً مُحَرَّمَةً؟ قُلْت: كُلُّ مَا كَانَ الشُّهُودُ يُسَمُّونَهُ بِحُدُودٍ مِنْ الْأَرَضِينَ وَالدُّورِ مَعْمُورِهَا وَغَيْرِ مَعْمُورِهَا وَالرَّقِيقِ فَقَالَ أَمَّا الْأَرَضُونَ وَالدُّورُ فَهِيَ صَدَقَاتُ مَنْ مَضَى فَكَيْفَ أَجَزْت الرَّقِيقَ وَأَصْحَابُنَا لاَ يُجِيزُونَ الصَّدَقَةَ بِالرَّقِيقِ إلَّا أَنْ يَكُونُوا فِي الْأَرْضِ الْمُتَصَدَّقِ بِهَا فَقُلْت لَهُ تَصَدَّقَ السَّلَفُ بِالدُّورِ وَالنَّخْلِ وَلَعَلَّ فِي النَّخْلِ زَرْعًا أَفَرَأَيْت إنْ قَالَ قَائِلٌ لاَ أُجِيزُ الصَّدَقَةَ بِحَمَّامٍ، وَلاَ مَقْبَرَةٍ؛ لِأَنَّهُمَا مُخَالِفَانِ لِلدُّورِ وَأَرَاضِي النَّخْلِ وَالزَّرْعِ هَلْ الْحُجَّةُ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يُقَالَ إذَا كَانَ السَّلَفُ تَصَدَّقُوا بِدُورٍ وَأَرَاضِيِ نَخْلٍ وَزَرْعٍ فَكَانَ ذَلِكَ إنَّمَا يُعْرَفُ بِالْحُدُودِ وَقَدْ تَتَغَيَّرُ، وَكَذَلِكَ الْحَمَّامُ وَالْمَقْبَرَةُ يُعْرَفَانِ بِحَدٍّ، وَإِنْ تَغَيَّرَا قَالَ هَذِهِ حُجَّةٌ عَلَيْهِ قَالَ، فَإِذَا كَانُوا يَعْرِفُونَ الْعَبِيدَ بِأَعْيَانِهِمْ أَتَجِدُهُمْ فِي مَعْرِفَةِ الشُّهُودِ بِهِمْ فِي مَعْنَى الْأَرْضِينَ وَالنَّخْلِ، أَوْ أَكْثَرَ بِأَنَّهُمْ إذَا عُرِفُوا بِأَعْيَانِهِمْ كَانُوا كَأَرْضٍ تُعْرَفُ حُدُودُهَا؟ قَالَ إنَّهُمْ لِقَرِيبٍ مِمَّا وَصَفْت قُلْت فَكَيْفَ أَبْطَلْت الصَّدَقَةَ الْمُحَرَّمَةَ فِيهِمْ؟ قَالَ قَدْ يَهْلَكُونَ وَيَأْبَقُونَ وَتَنْقَطِعُ مَنْفَعَتُهُمْ قُلْت فَكُلُّ هَذَا يُدْخِلُ الْأَرْضَ وَالشَّجَرَ قَدْ تُخَرَّبُ الْأَرْضُ بِذَهَابِ الْمَاءِ وَيَأْتِي عَلَيْهَا السَّيْلُ فَيَذْهَبُ بِهَا وَتَنْهَدِمُ الدَّارُ وَيَذْهَبُ بِهَا السَّيْلُ فَمَا كَانَتْ قَائِمَةً فَهِيَ مَوْقُوفَةٌ، وَلاَ جِنَايَةَ لَنَا فِيمَا أَتَى عَلَيْهَا مِنْ قَضَاءِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قُلْت: وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ لاَ جِنَايَةَ لَنَا فِي ذَهَابِهِ، وَلاَ نَقْصِهِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَكُلُّ مَا عُرِفَ بِعَيْنِهِ وَقَطَعَ عَلَيْهِ الشُّهُودُ مِثْلُ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ أَنَّهُ صَدَقَةٌ مُحَرَّمَةٌ جَازَتْ الصَّدَقَةُ فِي الْمَاشِيَةِ قَالَ وَتَتِمُّ الصَّدَقَاتُ الْمُحَرَّمَاتُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا مَالِكُهَا عَلَى قَوْمٍ مَعْرُوفِينَ بِأَعْيَانِهِمْ وَأَنْسَابِهِمْ وَصِفَاتِهِمْ وَيَجْمَعُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ الْمُتَصَدِّقُ بِهَا تَصَدَّقْت بِدَارِي هَذِهِ عَلَى قَوْمٍ، أَوْ رَجُلٍ مَعْرُوفٍ بِعَيْنِهِ يَوْمَ تَصَدَّقَ بِهَا، أَوْ صِفَتُهُ أَوْ نَسَبُهُ حَتَّى يَكُونَ إنَّمَا أَخْرَجَهَا مِنْ مِلْكِهِ لِمَالِكٍ مَلَّكَهُ مَنْفَعَتَهَا يَوْمَ أَخْرَجَهَا وَيَكُونُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ: صَدَقَةٌ لاَ تُبَاعُ، وَلاَ تُوهَبُ، أَوْ يَقُولَ: لاَ تُورَثُ، أَوْ يَقُولَ: غَيْرُ مَوْرُوثَةٍ أَوْ يَقُولَ: صَدَقَةٌ مُحَرَّمَةٌ، أَوْ يَقُولَ: صَدَقَةٌ مُؤَبَّدَةٌ، فَإِذَا كَانَ وَاحِدٌ مِنْ هَذَا، فَقَدْ حُرِّمَتْ الصَّدَقَةُ فَلاَ تَعُودُ مِيرَاثًا أَبَدًا، وَإِنْ قَالَ: صَدَقَةٌ مُحَرَّمَةٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَكُنْ بَعْدِي بِعَيْنِهِ وَلاَ نَسَبِهِ ثُمَّ عَلَى بَنِي فُلاَنٍ، أَوْ قَالَ: صَدَقَةٌ مُحَرَّمَةٌ عَلَى مَنْ كَانَ بَعْدِي بِعَيْنِهِ فَالصَّدَقَةُ مُنْفَسِخَةٌ، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُخْرِجَهَا مِنْ مِلْكِهِ إلَّا إلَى مَالِكِ مَنْفَعَةٍ لَهُ فِيهَا يَوْمَ يَخْرُجُهَا إلَيْهِ، وَإِذَا انْفَسَخَتْ عَادَتْ فِي مِلْكِ صَاحِبِهَا كَمَا كَانَتْ قَبْلَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا. وَلَوْ تَصَدَّقَ بِدَارِهِ صَدَقَةً مُحَرَّمَةً عَلَى رَجُلٍ بِعَيْنِهِ، أَوْ قَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ، وَلَمْ يَسْلُبْهَا عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ كَانَتْ مُحَرَّمَةً أَبَدًا، فَإِذَا انْقَرَضَ الرَّجُلُ الْمُتَصَدَّقُ بِهَا عَلَيْهِ، أَوْ الْقَوْمُ الْمُتَصَدِّقُ بِهَا عَلَيْهِمْ كَانَتْ هَذِهِ صَدَقَةً مُحَرَّمَةً بِحَالِهَا أَبَدًا وَرَدَدْنَاهَا عَلَى أَقْرَبِ النَّاسِ بِالرَّجُلِ الَّذِي تَصَدَّقَ بِهَا يَوْمَ تَرْجِعُ الصَّدَقَةُ إنَّمَا تَصِيرُ غَيْرَ رَاجِعَةٍ مَوْرُوثَةً بِوَاحِدٍ مِمَّا وَصَفْنَا أَوْ مَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ، وَإِنَّمَا فَسَخْنَاهَا إذَا تَصَدَّقَ بِهَا فَكَانَتْ حِينَ عُقِدَتْ صَدَقَةً لاَ مَالِكَ لِمَنْفَعَتِهَا؛ لِأَنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ مَالِكٍ إلَى غَيْرِ مَالِكِ مَنْفَعَةٍ؛ لِأَنَّهَا لاَ تَمْلِكُ مَنْفَعَةَ نَفْسِهَا كَمَا يَمْلِكُ الْعَبْدُ مَنْفَعَةَ نَفْسِهِ بِالْعِتْقِ، وَلاَ يَزُولُ عَنْهَا الْمِلْكُ إلَّا إلَى مَالِكِ مَنْفَعَةٍ فِيهَا فَأَمَّا إذَا لَمْ يَقُلْ فِي صَدَقَتِهِ مُحَرَّمَةٌ، أَوْ بَعْضُ مَا قُلْنَا مِمَّا هُوَ فِي مَعْنَى تَحْرِيمِهَا مِنْ شَرْطِ الْمُتَصَدِّقِ فَالصَّدَقَةُ كَالْهِبَاتِ تُمَلَّكُ بِمَا تُمَلَّكُ بِهِ الْأَمْوَالُ غَيْرُ الْمُحَرَّمَاتِ وَكَالْعُمْرَى، أَوْ غَيْرِهَا مِنْ الْعَطَايَا. وَسَوَاءٌ فِي الصَّدَقَاتِ الْمُحَرَّمَاتِ يَوْمَ يَتَصَدَّقُ بِهَا إلَى مَالِكٍ يَمْلِكُ مَنْفَعَتَهَا سَبَّلْت بَعْدَهُ، أَوْ لَمْ تُسَبِّلْ أَوْ دَفَعْت إلَيْهِ، أَوْ إلَى غَيْرِ الْمُتَصَدِّقِ أَوْ لَمْ تَدْفَعْ كُلُّ ذَلِكَ يُحَرِّمُ بَيْعَهَا بِكُلِّ حَالٍ وَسَوَاءٌ فِي الصَّدَقَاتِ كُلُّ مَا جَازَتْ فِيهِ الصَّدَقَاتُ الْمُحَرَّمَاتُ مِنْ أَرْضٍ وَدَارٍ وَغَيْرِهِمَا وَعَلَى مَا شَرَطَ الْمُتَصَدِّقُ لِمَنْ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَيْهِ مِنْ مَنْفَعَتِهَا فَإِنْ شَرَطَ أَنَّ لِبَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ الْأَثَرَةَ بِالتَّقَدُّمَةِ، أَوْ الزِّيَادَةِ مِنْ الْمَنْفَعَةِ فَذَلِكَ عَلَى مَا اشْتَرَطَ فَإِنْ شَرَطَهَا عَلَيْهِمْ بِأَسْمَائِهِمْ وَأَنْسَابِهِمْ فَسَوَاءٌ كَانُوا أَغْنِيَاءَ، أَوْ فُقَرَاءَ فَإِنْ قَالَ الْأَحْوَجُ مِنْهُمْ فَالْأَحْوَجُ كَانَتْ عَلَى مَا شَرَطَ لاَ يُعَدَّى بِهَا شَرَطَهُ، وَإِنْ شَرَطَهَا عَلَى جَمَاعَةِ رِجَالٍ وَنِسَاءٍ تَخْرُجُ النِّسَاءُ مِنْهَا إذَا تَزَوَّجْنَ وَيَرْجِعْنَ إلَيْهَا بِالْفِرَاقِ وَمَوْتِ الْأَزْوَاجِ كَانَتْ عَلَى مَا شَرَطَ، وَكَذَلِكَ إنْ شَرَطَ بِأَنْ يَخْرُجَ الرِّجَالُ مِنْهَا بَالِغِينَ وَيَدْخُلُوا صِغَارًا، أَوْ يَخْرُجُوا أَغْنِيَاءَ وَيَدْخُلُوا فُقَرَاءَ، أَوْ يَخْرُجُوا غُيَّبًا عَنْ الْبَلَدِ الَّذِي بِهِ الصَّدَقَةُ وَيَدْخُلُوا حُضُورًا كَيْفَمَا شَرَطَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كَانَ إذَا بَقِيَ لِمَنْفَعَتِهَا مَالِكٌ سِوَى مَنْ أَخْرَجَهُ مِنْهَا.
قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: وَخَالَفَنَا بَعْضُ النَّاسِ فِي الصَّدَقَاتِ الْمَوْقُوفَاتِ فَقَالَ لاَ تَجُوزُ بِحَالٍ قَالَ وَقَالَ شُرَيْحٌ جَاءَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِطْلاَقِ الْحَبْسِ قَالَ وَقَالَ شُرَيْحٌ لاَ حَبْسَ عَنْ فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَالْحَبْسُ الَّتِي جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِطْلاَقِهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مَا وَصَفْنَا مِنْ الْبَحِيرَةِ وَالْوَصِيلَةِ وَالْحَامِ وَالسَّائِبَةِ إنْ كَانَتْ مِنْ الْبَهَائِمِ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ مَا دَلَّ عَلَى مَا وَصَفْت؟ قِيلَ مَا عَلِمْنَا جَاهِلِيًّا حَبَسَ دَارًا عَلَى وَلَدٍ، وَلاَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلاَ عَلَى مَسَاكِينَ وَحَبْسُهُمْ كَانَتْ مَا وَصَفْنَا مِنْ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ وَالْحَامِ فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِطْلاَقِهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَكَانَ بَيِّنًا فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إطْلاَقُهَا، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَهُوَ يَحْتَمِلُ مَا وَصَفْت وَيَحْتَمِلُ إطْلاَقَ كُلِّ حَبْسٍ فَهَلْ مِنْ خَبَرٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحَبْسَ فِي الدُّورِ وَالْأَمْوَالِ خَارِجَةٌ مِنْ الْحَبْسِ الْمُطْلَقَةِ؟ قِيلَ: نَعَمْ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: جَاءَ عُمَرُ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إنِّي أَصَبْت مَالاً لَمْ أُصِبْ مِثْلَهُ قَطُّ، وَقَدْ أَرَدْت أَنْ أَتَقَرَّبَ بِهِ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حَبِّسْ أَصْلَهُ وَسَبِّلْ ثَمَرَتَهُ».
قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَحَجَّةُ الَّذِي أَبْطَلَ الصَّدَقَاتِ الْمَوْقُوفَاتِ أَنَّ شُرَيْحًا قَالَ: لاَ حَبْسَ عَنْ فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى لاَ حُجَّةَ فِيهَا عِنْدَنَا، وَلاَ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّهُ يَقُولُ قَوْلَ شُرَيْحٍ عَلَى الِانْفِرَادِ لاَ يَكُونُ حُجَّةً، وَلَوْ كَانَ حُجَّةً لَمْ يَكُنْ فِي هَذَا حَبْسٌ عَنْ فَرَائِضِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَإِنْ قَالَ: وَكَيْفَ؟ قِيلَ: إنَّمَا أَجَزْنَا الصَّدَقَاتِ الْمَوْقُوفَاتِ إذَا كَانَ الْمُتَصَدِّقُ بِهَا صَحِيحًا فَارِغَةً مِنْ الْمَالِ فَإِنْ كَانَ مَرِيضًا لَمْ نُجِزْهَا إلَّا مِنْ الثُّلُثِ إذَا مَاتَ مِنْ مَرَضِهِ ذَلِكَ وَلَيْسَ فِي وَاحِدَةٍ مِنْ الْحَالَيْنِ حَبْسٌ عَنْ فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَإِذَا حَبَّسَهَا صَحِيحًا ثُمَّ مَاتَ لَمْ تُوَرَّثْ عَنْهُ قِيلَ: فَهُوَ أَخْرَجَهَا، وَهُوَ مَالِكٌ لِجَمِيعِ مَالِهِ يَصْنَعُ فِيهِ مَا يَشَاءُ وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُخْرِجَهَا لِأَكْثَرِ مِنْ هَذَا عِنْدَنَا، وَعِنْدَك أَرَأَيْت لَوْ وَهَبَهَا لِأَجْنَبِيٍّ، أَوْ بَاعَهُ إيَّاهَا فَحَابَاهُ أَيَجُوزُ؟ فَإِنْ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَإِذَا فَعَلَ ثُمَّ مَاتَ أَتُوَرَّثُ عَنْهُ؟ فَإِنْ قَالَ: لاَ، قِيلَ: فَهَذَا قَرَارٌ مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنْ قَالَ: لاَ؛ لِأَنَّهُ أَعْطَى، وَهُوَ يَمْلِكُ وَقَبْلَ وُقُوعِ فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى قِيلَ: وَهَكَذَا الصَّدَقَةُ تَصَدَّقَ بِهَا صَحِيحًا قَبْلَ وُقُوعِ فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَوْلُك: لاَ حَبْسَ عَنْ فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَهُ قَبْلَ أَنْ تَكُونَ فَرَائِضُ اللَّهِ فِي الْمِيرَاثِ؛ لِأَنَّ الْفَرَائِضَ إنَّمَا تَكُونُ بَعْدَ مَوْتِ الْمَالِكِ، وَفِي الْمَرَضِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَحَجَّةُ الَّذِي صَارَ إلَيْهِ مَنْ أَبْطَلَ الصَّدَقَاتِ أَنْ قَالَ: إنَّهَا فِي مَعْنَى الْبَحِيرَةِ وَالْوَصِيلَةِ وَالْحَامِي؛ لِأَنَّ سَيِّدَهَا أَخْرَجَهَا مِنْ مِلْكِهِ إلَى غَيْرِ مَالِكٍ قِيلَ: لَهُ قَدْ أَخْرَجَهَا إلَى مَالِكٍ يَمْلِكُ مَنْفَعَتَهَا بِأَمْرٍ جَعَلَهُ لِلَّهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْبَحِيرَةُ وَالْوَصِيلَةُ وَالْحَامِي لَمْ تَخْرُجْ رَقَبَتُهُ، وَلاَ مَنْفَعَتُهُ إلَى مَالِكٍ فَهُمَا مُتَبَايِنَانِ فَكَيْفَ تَقِيسُ أَحَدَهُمَا بِالْآخِرِ؟
قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَاَلَّذِي يَقُولُ هَذَا الْقَوْلَ يَزْعُمُ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا تَصَدَّقَ بِمَسْجِدٍ لَهُ جَازَ ذَلِكَ، وَلَمْ يَعُدْ فِي مِلْكِهِ وَكَانَ صَدَقَةً مَوْقُوفًا عَلَى مَنْ صَلَّى فِيهِ، فَإِذَا قِيلَ لَهُ: فَهَلْ أَخْرَجَهُ إلَى مَالِكٍ يَمْلِكُ مِنْهُ مَا كَانَ مَالِكُهُ يَمْلِكُ؟ قَالَ: لاَ، وَلَكِنْ مَلَّكَ مَنْ صَلَّى فِيهِ الصَّلاَةَ وَجَعَلَهُ لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ حُجَّةٌ بِخِلاَفِ السُّنَّةِ إلَّا مَا أَجَازَهُ فِي الْمَسْجِدِ مِمَّا لَيْسَ فِيهِ سُنَّةٌ وَرَدَّ مِنْ الدُّورِ وَالْأَرْضِينَ، وَفِي الْأَرْضِينَ سُنَّةٌ كَانَ مَحْجُوجًا فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: أُجِيزَ الْأَرْضِينَ وَالدُّورُ؛ لِأَنَّ فِي الْأَرْضِينَ سُنَّةٌ وَالدُّورُ مِثْلُهَا؛ لِأَنَّهَا أَرْضُونَ تَغُلُّ، وَأَرَادَ الْمَسَاجِدَ كَانَ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ مَقْبُولاً مِمَّنْ رَدَّ الدُّورَ وَالْأَرْضِينَ وَأَجَازَ الْمَسَاجِدَ ثُمَّ تَجَاوَزَ فِي الْمَسَاجِدِ إلَى أَنْ قَالَ: لَوْ بَنَى رَجُلٌ فِي دَارِهِ مَسْجِدًا فَأَخْرَجَ لَهُ بَابًا وَأَذِنَ لِلنَّاسِ أَنْ يُصَلُّوا فِيهِ كَانَ حَبْسًا وَقْفًا، وَهُوَ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِوَقْفِهِ، وَلاَ بِحَبْسِهِ وَجُعِلَ إذْنُهُ بِالصَّلاَةِ كَالْكَلاَمِ بِحَبْسِهِ وَوَقْفُهُ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَعَابَ هَذَا الْقَوْلَ عَلَيْهِ صَاحِبَاهُ وَاحْتَجَّا عَلَيْهِ بِمَا ذَكَرْنَا وَأَكْثَرَ مِنْهُ وَقَالاَ: هَذَا جَهْلٌ، صَدَقَاتُ الْمُسْلِمِينَ فِي الْقَدِيمِ وَالْحَدِيثِ أَشْهُرُ مِنْ أَنْ يَنْبَغِيَ أَنْ يَجْهَلَهَا عَالِمٌ، وَأَجَازُوا الصَّدَقَاتِ الْمُحَرَّمَاتِ فِي الدُّورِ وَالْأَرْضِينَ عَلَى مَا أَجَزْنَاهَا عَلَيْهِ ثُمَّ اعْتَدَلَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ فِيهَا فَقَالَ: بِأَحْسَنِ قَوْلٍ فَقَالَ: تَجُوزُ الصَّدَقَاتُ الْمُحَرَّمَاتُ إذَا تَكَلَّمَ بِهَا صَاحِبُهَا قُبِضَتْ، أَوْ لَمْ تُقْبَضْ وَذَلِكَ أَنَّا إنَّمَا أَجَزْنَاهَا اتِّبَاعًا لِمَنْ كَانَ قَبْلَنَا مِثْلَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنهما وَغَيْرِهِمْ وَهُمْ وَلَوْا صَدَقَاتِهِمْ حَتَّى مَاتُوا فَلاَ يَجُوزُ أَنْ نُخَالِفَهُمْ فِي أَنْ لاَ نُجِيزَهَا إلَّا مَقْبُوضَةً وَهُمْ قَدْ أَجَازُوهَا غَيْرَ مَقْبُوضَةٍ بِالْكَلاَمِ بِهَا فَنُوَافِقُهُمْ فِي إجَازَتِهَا. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَمَا قَالَ فِيهَا أَبُو يُوسُفَ كَمَا قَالَ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: أَخْبَرَنِي غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ آلِ عُمَرَ وَآلِ عَلِيٍّ أَنَّ عُمَرَ وَلَّى صَدَقَتَهُ حَتَّى مَاتَ وَجَعَلَهَا بَعْدَهُ إلَى حَفْصَةَ وَوَلَّى عَلِيٌّ صَدَقَتَهُ حَتَّى مَاتَ وَوَلِيَهَا بَعْدَهُ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ رضي الله عنهما وَأَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِيَتْ صَدَقَتَهَا حَتَّى مَاتَتْ وَبَلَغَنِي عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الْأَنْصَارِ أَنَّهُ وَلِيَ صَدَقَتَهُ حَتَّى مَاتَ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَفِي أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَنْ يُسَبِّلَ ثَمَرَ أَرْضِهِ وَيُحَبِّسَ أَصْلَهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ رَأَى مَا صَنَعَ جَائِزًا فَبِهَذَا نَرَاهُ بِلاَ قَبْضٍ جَائِزًا، وَلَمْ يَأْمُرْهُ أَنْ يُخْرِجَهُ عُمَرُ مِنْ مِلْكِهِ إلَى غَيْرِهِ إذَا حَبَّسَهُ وَلَمَّا صَارَتْ الصَّدَقَاتُ مُبَدَّأَةً فِي الْإِسْلاَمِ لاَ مِثَالَ لَهَا قَبْلَهُ عَلَّمَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمَرَ فَلَمْ يَكُنْ فِيمَا أَمَرَهُ بِهِ إذَا حَبَّسَ أَصْلَهَا وَسَبَّلَ ثَمَرَتَهَا أَنْ يُخْرِجَهَا إلَى أَحَدٍ يَحُوزُهَا دُونَهُ دَلاَلَةٌ عَلَى أَنَّ الصَّدَقَةَ تَتِمُّ بِأَنْ يُحَبِّسَ أَصْلَهَا وَيُسَبِّلَ ثَمَرَتَهَا دُونَ وَالٍ يَلِيهَا كَمَا كَانَ فِي أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا إسْرَائِيلَ أَنْ يَصُومَ وَيَسْتَظِلَّ وَيَجْلِسَ وَيَتَكَلَّمَ دَلاَلَةٌ عَلَى أَنْ لاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ فِي ذَلِكَ بِكَفَّارَةٍ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَخَالَفَنَا بَعْضُ النَّاسِ فِي الصَّدَقَاتِ الْمُحَرَّمَاتِ فَقَالَ: لاَ تَجُوزُ حَتَّى يُخْرِجَهَا الْمُتَصَدِّقُ بِهَا إلَى مَنْ يَحُوزُهَا عَلَيْهِ وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا وَصَفْنَا وَغَيْرُهُ مِنْ افْتِرَاقِ الصَّدَقَاتِ الْمَوْقُوفَاتِ وَغَيْرِهَا مِمَّا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى أَنْ لاَ يَتِمَّ إلَّا بِقَبْضٍ.
أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: أَخْبَرَنَا الشَّافِعِيُّ إمْلاَءً قَالَ: هَذَا كِتَابٌ كَتَبَهُ فُلاَنُ بْنُ فُلاَنٍ الْفُلاَنِيُّ فِي صِحَّةٍ مِنْ بَدَنِهِ وَعَقْلِهِ وَجَوَازِ أَمْرِهِ وَذَلِكَ فِي شَهْرِ كَذَا مِنْ سَنَةِ كَذَا إنِّي تَصَدَّقْت بِدَارِي الَّتِي بِالْفُسْطَاطِ مِنْ مِصْرَ فِي مَوْضِعِ كَذَا أَحَدُ حُدُودِ جَمَاعَةِ هَذِهِ الدَّارِ يَنْتَهِي إلَى كَذَا وَالثَّانِي وَالثَّالِثِ وَالرَّابِعِ تَصَدَّقْت بِجَمِيعِ أَرْضِ هَذِهِ الدَّارِ وَعِمَارَتِهَا مِنْ الْخَشَبِ وَالْبِنَاءِ وَالْأَبْوَابِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ عِمَارَتِهَا وَطُرُقِهَا وَمَسَايِلِ مَائِهَا وَأَرْفَاقِهَا وَمُرْتَفَقِهَا وَكُلِّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ هُوَ فِيهَا وَمِنْهَا وَكُلِّ حَقٍّ هُوَ لَهَا دَاخِلٌ فِيهَا وَخَارِجٌ مِنْهَا وَحَبَسْتهَا صَدَقَةً بَتَّةً مُسَبَّلَةً لِوَجْهِ اللَّهِ وَطَلَبِ ثَوَابِهِ لاَ مَثْنَوِيَّةَ فِيهَا، وَلاَ رَجْعَةَ حَبْسًا مُحَرَّمَةً لاَ تُبَاعُ، وَلاَ تُوَرَّثُ، وَلاَ تُوهَبُ حَتَّى يَرِثَ اللَّهُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا، وَهُوَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ وَأَخْرَجْتهَا مِنْ مِلْكِي وَدَفَعْتهَا إلَى فُلاَنِ بْنِ فُلاَنٍ يَلِيهَا بِنَفْسِهِ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ تَصَدَّقْت بِهَا عَلَيْهِ عَلَى مَا شَرَطْت وَسَمَّيْت فِي كِتَابِي هَذَا وَشَرْطِي فِيهِ أَنِّي تَصَدَّقْت بِهَا عَلَى وَلَدِي لِصُلْبِي ذَكَرِهِمْ وَأُنْثَاهُمْ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ حَيًّا الْيَوْمَ، أَوْ حَدَثَ بَعْدَ الْيَوْمِ وَجَعَلْتهمْ فِيهَا سَوَاءً ذَكَرَهُمْ وَأُنْثَاهُمْ صَغِيرَهُمْ وَكَبِيرَهُمْ شَرْعًا فِي سُكْنَاهَا وَغَلَّتِهَا لاَ يَقْدُمُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ عَلَى صَاحِبِهِ مَا لَمْ تَتَزَوَّجْ بَنَاتِي، فَإِذَا تَزَوَّجَتْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ وَبَاتَتْ إلَى زَوْجِهَا انْقَطَعَ حَقُّهَا مَا دَامَتْ عِنْدَ زَوْجٍ وَصَارَ بَيْنَ الْبَاقِينَ مِنْ أَهْلِ صَدَقَتِي كَمَا بَقِيَ مِنْ صَدَقَتِي يَكُونُونَ فِيهِمْ شَرْعًا مَا كَانَتْ عِنْدَ زَوْجٍ. فَإِذَا رَجَعَتْ بِمَوْتِ زَوْجٍ، أَوْ طَلاَقٍ كَانَتْ عَلَى حَقِّهَا مِنْ دَارِي كَمَا كَانَتْ عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ تَتَزَوَّجَ وَكُلَّمَا تَزَوَّجَتْ وَاحِدَةٌ مِنْ بَنَاتِي فَهِيَ عَلَى مِثْلِ هَذَا الشَّرْطِ تَخْرُجُ مِنْ صَدَقَتِي نَاكِحَةً وَيَعُودُ حَقُّهَا فِيهَا مُطَلَّقَةً أَوْ مَيِّتًا عَنْهَا لاَ تَخْرُجُ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ مِنْ صَدَقَتِي إلَّا بِزَوْجٍ. وَكُلُّ مَنْ مَاتَ مِنْ وَلَدِي لِصُلْبِي ذَكَرِهِمْ وَأُنْثَاهُمْ رَجَعَ حَقُّهُ عَلَى الْبَاقِينَ مَعَهُ مِنْ وَلَدِي لِصُلْبِي، فَإِذَا انْقَرَضَ وَلَدِي لِصُلْبِي فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ وَاحِدٌ كَانَتْ هَذِهِ الصَّدَقَةُ حَبْسًا عَلَى وَلَدِ وَلَدِي الذُّكُورِ لِصُلْبِي وَلَيْسَ لِوَلَدِ الْبَنَاتِ مِنْ غَيْرِ وَلَدِي شَيْءٌ ثُمَّ كَانَ وَلَدُ وَلَدِي الذُّكُورُ مِنْ الْإِنَاثِ وَالذُّكُورُ فِي صَدَقَتِي هَذِهِ عَلَى مِثْلِ مَا كَانَ عَلَيْهِ وَلَدِي لِصُلْبِي الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى فِيهَا سَوَاءٌ وَتَخْرُجُ الْمَرْأَةُ مِنْهُمْ مِنْ صَدَقَتِي بِالزَّوْجِ وَتُرَدُّ إلَيْهَا بِمَوْتِ الزَّوْجِ، أَوْ طَلاَقِهِ وَكُلُّ مَنْ حَدَثَ مِنْ وَلَدِي الذُّكُورِ مِنْ الْإِنَاثِ وَالذُّكُورِ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي صَدَقَتِي مَعَ وَلَدِ وَلَدِي وَكُلُّ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ رَجَعَ حَقُّهُ عَلَى الْبَاقِينَ مَعَهُ حَتَّى لاَ يَبْقَى مِنْ وَلَدِ وَلَدِي أَحَدٌ. فَإِذَا لَمْ يَبْقَ مِنْ وَلَدِ وَلَدِي لِصُلْبِي أَحَدٌ كَانَتْ هَذِهِ الصَّدَقَةُ بِمِثْلِ هَذَا الشَّرْطِ عَلَى وَلَدِ وَلَدِ وَلَدِي لِلذُّكُورِ الَّذِينَ إلَى عَمُودِ نَسَبِهِمْ تَخْرُجُ مِنْهَا الْمَرْأَةُ بِالزَّوْجِ وَتُرَدُّ إلَيْهَا بِمَوْتِهِ، أَوْ فِرَاقِهِ وَيَدْخُلُ عَلَيْهِمْ مَنْ حَدَثَ أَبَدًا مِنْ وَلَدِ وَلَدِ وَلَدِي، وَلاَ يَدْخُلُ قَرْنٌ مِمَّنْ إلَى عَمُودِ نَسَبِهِ مِنْ وَلَدِ وَلَدِي مَا تَنَاسَلُوا عَلَى الْقَرْنِ الَّذِينَ هُمْ أَبْعَدُ إلَيَّ مِنْهُمْ مَا بَقِيَ مِنْ ذَلِكَ الْقَرْنِ أَحَدٌ، وَلاَ يَدْخُلُ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ مِنْ وَلَدِ بَنَاتِي الَّذِينَ إلَى عَمُودِ انْتِسَابِهِمْ إلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ وَلَدِ بَنَاتِي مَنْ هُوَ مِنْ وَلَدِ وَلَدِي الذُّكُورِ الَّذِينَ إلَى عَمُودِ نَسَبِهِ فَيَدْخُلُ مَعَ الْقَرْنِ الَّذِينَ عَلَيْهِمْ صَدَقَتِي لِوِلاَدَتِي إيَّاهُ مِنْ قِبَلِ أَبِيهِ لاَ مِنْ قِبَلِ أُمِّهِ ثُمَّ هَكَذَا صَدَقَتِي أَبَدًا عَلَى مَنْ بَقِيَ مِنْ وَلَدِ أَوْلاَدِي الَّذِينَ إلَى عَمُودِي نَسَبُهُمْ، وَإِنْ سَفَلُوا، أَوْ تَنَاسَخُوا حَتَّى يَكُونَ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ مِائَةُ أب وَأَكْثَرُ مَا بَقِيَ أَحَدٌ إلَى عَمُودِ نَسَبِهِ، فَإِذَا انْقَرَضُوا كُلُّهُمْ فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ إلَى عَمُودِ نَسَبِهِ فَهَذِهِ الدَّارُ حَبْسُ صَدَقَةٍ لاَ تُبَاعُ، وَلاَ تُوهَبُ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى ذَوِي رَحِمِي الْمُحْتَاجِينَ مِنْ قِبَلِ أَبِي وَأُمِّي يَكُونُونَ فِيهَا شَرْعًا سَوَاءٌ ذَكَرُهُمْ وَأُنْثَاهُمْ وَالْأَقْرَبُ إلَيَّ مِنْهُمْ وَالْأَبْعَدُ مِنِّي، فَإِذَا انْقَرَضُوا، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ فَهَذِهِ الدَّارُ حَبْسٌ عَلَى مُوَالِيَّ الَّذِينَ أَنْعَمْت عَلَيْهِمْ وَأَنْعَمَ عَلَيْهِمْ آبَائِي بِالْعَتَاقَةِ لَهُمْ وَأَوْلاَدِهِمْ وَأَوْلاَدِ أَوْلاَدِهِمْ مَا تَنَاسَلُوا ذَكَرُهُمْ وَأُنْثَاهُمْ صَغِيرُهُمْ وَكَبِيرُهُمْ وَمَنْ بَعُدَ إلَيَّ وَإِلَى آبَائِي نَسَبُهُ بِالْوَلاَءِ وَنَسَبُهُ إلَى مَنْ صَارَ مَوْلاَيَ بِوِلاَيَةٍ سَوَاءٌ، فَإِذَا انْقَرَضُوا فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ فَهَذِهِ الدَّارُ حَبْسُ صَدَقَةٍ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَنْ يَمُرُّ بِهَا مِنْ غُزَاةِ الْمُسْلِمِينَ وَأَبْنَاءِ السَّبِيلِ وَعَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ مِنْ جِيرَانِ هَذِهِ الدَّارِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْفُسْطَاطِ وَأَبْنَاءِ السَّبِيلِ وَالْمَارَّةِ مَنْ كَانُوا حَتَّى يَرِثَ اللَّهُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا. وَيَلِي هَذِهِ الدَّارَ ابْنِي فُلاَنُ بْنُ فُلاَنٍ الَّذِي وَلَّيْته فِي حَيَاتِي وَبَعْدَ مَوْتِي مَا كَانَ قَوِيًّا عَلَى وِلاَيَتِهَا أَمِينًا عَلَيْهَا بِمَا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ مِنْ تَوْفِيرِ غَلَّةٍ إنْ كَانَتْ لَهَا وَالْعَدْلُ فِي قَسْمِهَا، وَفِي إسْكَانِ مَنْ أَرَادَ السَّكَنَ مِنْ أَهْلِ صَدَقَتِي بِقَدْرِ حَقِّهِ فَإِنْ تَغَيَّرَتْ حَالُ فُلاَنِ بْنِ فُلاَنٍ ابْنِي يَضْعُفُ عَنْ وِلاَيَتِهَا، أَوْ قِلَّةُ أَمَانَةٍ فِيهَا أُوَلِّيهَا مِنْ وَلَدِي أَفْضَلَهُمْ دِينًا وَأَمَانَةً عَلَى الشُّرُوطِ الَّتِي شَرَطْت عَلَى ابْنِي فُلاَنٍ وَيَلِيهَا مَا قَوِيَ وَأَدَّى الْأَمَانَةَ، فَإِذَا ضَعُفَ، أَوْ تَغَيَّرَتْ أَمَانَتُهُ فَلاَ وِلاَيَةَ لَهُ فِيهَا وَتَنْتَقِلُ الْوِلاَيَةُ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُوَّةِ وَالْأَمَانَةِ مِنْ وَلَدِي ثُمَّ كُلُّ قَرْنٍ صَارَتْ هَذِهِ الصَّدَقَةُ إلَيْهِ وَلِيَهَا مِنْ ذَلِكَ الْقَرْنِ أَفْضَلُهُمْ قُوَّةً وَأَمَانَةً وَمَنْ تَغَيَّرَتْ حَالُهُ مِمَّنْ وَلِيَهَا بِضَعْفٍ، أَوْ قِلَّةِ أَمَانَةٍ نُقِلَتْ وِلاَيَتُهَا عَنْهُ إلَى أَفْضَلِ مَنْ عَلَيْهِ صَدَقَتِي قُوَّةً وَأَمَانَةً وَهَكَذَا كُلُّ قَرْنٍ صَارَتْ صَدَقَتِي هَذِهِ إلَيْهِ يَلِيهَا مِنْهُ أَفْضَلُهُمْ دِينًا وَأَمَانَةً عَلَى مِثْلِ مَا شَرَطْت عَلَى وَلَدِي مَا بَقِيَ مِنْهُمْ أَحَدٌ ثُمَّ مَنْ صَارَتْ إلَيْهِ هَذِهِ الدَّارُ مِنْ قَرَابَتِي، أَوْ مُوَالِيَّ وَلِيَهَا مِمَّنْ صَارَتْ إلَيْهِ أَفْضَلُهُمْ دِينًا، وَلاَ أَمَانَةَ مَا كَانَ فِي الْقَرْنِ الَّذِي تَصِيرُ إلَيْهِمْ هَذِهِ الصَّدَقَةُ ذُو قُوَّةٍ وَأَمَانَةٍ، وَإِنْ حَدَثَ قَرْنٌ لَيْسَ فِيهِمْ ذُو قُوَّةٍ، وَلاَ أَمَانَةٍ وَلَّى قَاضِي الْمُسْلِمِينَ صَدَقَتِي هَذِهِ مَنْ يَحْمِلُ وِلاَيَتَهَا بِالْقُوَّةِ وَالْأَمَانَةِ مَنْ أَقْرَبُ النَّاسِ إلَيَّ رَحِمًا مَا كَانَ ذَلِكَ فِيهِمْ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِيهِمْ فَمِنْ مُوَالِيَّ وَمَوَالِي آبَائِي الَّذِينَ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِمْ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِيهِمْ فَرَجُلٌ يَخْتَارُهُ الْحَاكِمُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَإِنْ حَدَثَ مِنْ وَلَدِي أَوْ مِنْ وَلَدِ وَلَدِي، أَوْ مِنْ مَوَالِي رَجُلٍ لَهُ قُوَّةٌ وَأَمَانَةٌ نَزَعَهَا الْحَاكِمُ مِنْ يَدَيْ مَنْ وَلَّاهُ مِنْ قِبَلِهِ وَرَدَّهَا إلَى مَنْ كَانَ قَوِيًّا وَأَمِينًا مِمَّنْ سَمَّيْت وَعَلَى كُلِّ وَالٍ يَلِيهَا أَنْ يُعَمِّرَ مَا وَهِيَ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ وَيُصْلِحَ مَا خَافَ فَسَادَهُ مِنْهَا وَيَفْتَحَ فِيهَا مِنْ الْأَبْوَابِ وَيُصْلِحَ مِنْهَا مَا فِيهِ الصَّلاَحُ لَهَا وَالْمُسْتَرَدُّ فِي غَلَّتِهَا وَسَكَنِهَا مِمَّا يَجْتَمِعُ مِنْ غَلَّةِ هَذِهِ الدَّارِ ثُمَّ يُفَرِّقُ مَا يَبْقَى عَلَى مَنْ لَهُ هَذِهِ الْغَلَّةُ سَوَاءٌ بَيْنَهُمْ مَا شَرَطْت لَهُمْ، وَلَيْسَ لِلْوَالِي مِنْ وُلاَةِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُخْرِجَهَا مِنْ يَدَيْ مَنْ وَلَّيْته إيَّاهَا مَا كَانَ قَوِيًّا أَمِينًا عَلَيْهَا، وَلاَ مِنْ يَدَيْ أَحَدٍ مِنْ الْقَرْنِ الَّذِي تَصِيرُ إلَيْهِمْ مَا كَانَ فِيهِمْ مَنْ يَسْتَوْجِبُ وِلاَيَتَهَا بِالْقُوَّةِ وَالْأَمَانَةِ، وَلاَ يُوَلِّي غَيْرَهُمْ، وَهُوَ يَجِدُ فِيهِمْ مَنْ يَسْتَوْجِبُ الْوِلاَيَةَ، شَهِدَ عَلَى إقْرَارِ فُلاَنِ بْنِ فُلاَنٍ، فُلاَنُ بْنُ فُلاَنٍ وَمَنْ شَهِدَ.
|